الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

رسالة في العالم الرباني ولوازم العلم




رسالة في العالم الرباني ولوازم العلم

تأليف : تركي بن سعد البواردي




بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدلله الذي علّم بالقلم .. علّم الإنسان ما لم يعلم .. والصلاة والسلام على أشرف الخلق وخاتم النبيين وآله وصحبه الطيبين الطاهرين..أما بعد :

     قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرّي رحمه الله : فإنّ الله عزّ وجلّ وتقدّست أسماؤه .. اختصّ من خلقه من أحبّ فهداهم للإيمان .. ثم اختصّ من سائر المؤمنين من أحبّ فتفضّل عليهم فعلّمهم الكتاب والحكمة وفقّههم في الدين.. وعلّمهم التأويل .. وفضّلهم على سائر المؤمنين.. وذلك في كل زمان وأوان .. رفعهم بالعلم .. وزيّنهم بالحلم .. بهم يُعرفُ الحلال من الحرام .. والحقّ من الباطل .. والضّارُّ من النافع .. والحسن من القبيح .. فضْلُهم عظيم ..وخَطَرُهم جزيل.. ورثة الأنبياء .. وقرّة عين الأولياء .. الحيتان في البحار لهم تستغفر .. والملائكة بأجنحتها لهم تخضع .. والعلماء يوم القيامة بعد الأنبياء تشفع .. مجالسهم تفيد الحكمة .. وبأعمالهم ينزجرُ أهل الغفلة .. هم أفضل من العُبّاد .. وأعلى درجة من الزّهاد .. حياتهم غنيمة .. وموتهم مصيبة ..يذكّرون الغافل .. ويعلّمون الجاهل .. لا يُتوقّعُ لهم بائقة .. ولا يُخاف منهم غائلة .. بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون .. وبجميل موعظتهم يرجع المقصّرون ..جميع الخلق إلى علمهم محتاج .. والصحيح على من خالف بقولهم محجاج .. الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة .. والمعصيةُ لهم محرّمة .. من أطاعهم رشد ..ومن عصاهم عَنَد .. هم سراجُ العباد .. ومنارُ البلاد .. وقِوامُ الأمّة .. وينابيع الحكمة .. هم غيظُ الشيطان .. بهم تحيا قلوب أهل الحقّ .. وتموت قلوب أهل الزيغ .. مثلُهم في الأرض كمثل النجوم في السماء .. يُهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر .. إذا انطمست النجوم تحيّروا .. وإذا أسفر عنها الظلام أبْصروا " ا.ه

     إنّ هذا الثناء ومن قبله قوله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( العلماء ورثة الأنبياء ) ليس عاما لجميع العلماء .. إنما هو خاص بفئة منهم .. وهو ما تقرأه في كلام المترجمين والمؤرخين رحمهم الله .. وإلقاء نظرة على كتب التراجم – كالسير والتهذيب -وكتب الطبقات – طبقات المفسرين .. طبقات المحدثين ..طبقات القرّاء – تجعلك تدرك يقينا معنى قولنا السابق .. وتشعرك بوجود فوارق بين علماء كل طبقة .. وكذلك استئثار عدد قليل منهم بالإمامة والعلم .

     وعند البحث عن تلك الفوارق وأسباب ذلك الاستئثار يتضح لديك أن الإلمام بالعلوم الشرعية ليس هو الفارق الرئيسي .. وعليه فلا تكاد تظفر باتفاق الناس - على اختلاف مذاهبهم - على إمامة عالم في عصر من العصور إلا على القليل جدا .

وقبل الشروع في المراد نذكر الداعي إلى التأليف :

حال العلماء وطلاب العلم  :
     إذا أردت أن تعرف عظمة أمّة فانظر إلى حال علماءها .. وإنك لتأسف وتتألم عندما تشاهد حال البعض من علمائنا وطلاب العلم  وتعيش واقعهم .. وحالهم يختصر ذكره في أمور :

     1- وراثة العلم وترك العمل .
     2- تجاهل حقيقة وجودهم .
     3- زرع الفتنة في مجتمعهم وبين أنفسهم من غير قصد أحياناً كثيرة .
     4- تصنيف الناس .
     5- سوء الظن والشك في الآخر والتخويف منه .
     6- انشغالهم بصغائر الأمور وتضخيمها .
     7- التسابق للفتيا .
     8- الشغف بشواذ المسائل .
     9- بيع العلم وشراء الشهرة .

     وهذا الكلام يحمل على الغالب كما قلنا .. لوجود من يُستثنى .. وهم فئة العلماء الربانيين .. وقد ذكر وصفهم الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله بقوله " فإذا استكمل هذه المراتب الأربع ( العلم والعمل والدعوة والصبر ) صار من الربّانيين .. فإن السلف مجمعون على أنّ العالم لا يستحق أن يسمّى ربّانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلّمه ..فمن علِم وعمِل وعلّم فذلك يُدعى عظيما في ملكوت السماء" .

     ولما كان للعالم الرباني منزلته في بلده .. كان طلاب العلم والجمهور من العامة يتسابقون لتقييد أو حفظ كل كلمة ينطق بها .. أو أي عمل يعمله والاقتداء به . وهذا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه – وقصته في فتنة القول بخلق القرآن معلومة – كان يسعه ما وسع غيره .. سواء كان ذلك بالسكوت وعدم الإنكار أو موافقتهم فيما ذهبوا إليه .. ولكن ربانيته أبت عليه أن يبطل أصلا من أصول التوحيد لهوى أو دنيا أو خوف وعلمه أيضا أن لكلامه أثر في نفوس الناس وربما اقتدى به البعض وكان سببا في ثبات من ضلّ على ضلاله..ولهذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه رجل مرحلة واستحقّ أن يلقب بسيّد العلماء وكبيرهم.

     وإننا أحوج ما نكون في زماننا هذا إلى العلماء الربانيين الذين حصّنوا أنفسهم من أن يصل إليهم الفساد المعنوي والحسي !! .

     والربانية هي موضوع هذا الكتاب .. ومردّها إلى أمرين لا سبيل إلى تحقيقها إلا بهما.

حقيقة العلم .. و حقيقة الطلب .

أولا : حقيقة العلم :
     - كان العلم يُطلبُ للآخرة فطلب للدنيا فمحيت بركته .

     وهذا هو الفارق الأول بين العالم الرباني وغيره.

     قال الصحابي ابن عباس رضي الله عنهما لو أنّ حملة العلم أخذوه بحقّه وما ينبغي لأحبّهم الله وملائكته والصالحون ولها بهم الناس .

     فالسلف رحمهم الله ما كانوا يطلبون العلم لذاته بل لشيء أكبر .

     قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله إنما يطلب الحديث ليُتْقى به الله عزّ وجل .

     قال الإمام الحسن البصري رحمه الله في تفسير قوله تعالى ( ولكن كونوا ربانيين ) قال أهل عبادة وتقوى .

- كان العلم عبادة فأصبح عادة فزال أثره .

     ولهذا نقول لا يغرّنك كثرة الحاملين للعلم ولكن انظر إلى أثر العلم فيهم ، وهذا هو الفارق الثاني .

     قالت امرأة للإمام الشعبي رحمه الله أيها العالم أفتني.. فقال إنما العالم من خاف الله عزّ وجل.

     قال الإمام مسروق رحمه الله بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله .. وبحسب امرئ من الجهل أن يعجب بعلمه .

     قال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله قال لي عبدالله بن المبارك .. أكثركم علما ينبغي أن يكون أكثركم خوفا .

     قال الإمام مالك بن دينار رحمه الله من تعلّم العلم للعمل كسره .. ومن تعلّمه لغير العمل زاده فخرا .

     قال الإمام الحسن البصري رحمه الله الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل.

     قال الإمام عبدالأعلى التيمي رحمه الله من أُوتي من العلم ما لا يُبكيه فخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه .. لأن الله عزوجل نعت العلماء وقرأ { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إنّ الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للإذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } .

     قال الإمام الحسن البصري رحمه الله كان طالب العلم يُرى أثر ذلك في سمعه وبصره وتخشعه .

     وإن من لوازم أثر العلم على حامله عنايته بعمل القلب ويظهر ذلك بــ :

     1- معاملة الله .
     2- الصدع بالحق .
     3- عدم الجرأة على الفتيا .
     4- تعلّم وتعليم العلم النافع .
     5- جمع الناس على كلمة الحق .
     6- صيانة العلم .

ثانيا : حقيقة الطلب :
     ومرادنا معرفة أصوله .. ولا يتم ذلك إلا عن طريق  معرفة كيف أحسن السلف رحمهم الله أخذ العلم ( الطلب ) .. وذلك بأمور :

1- أخذ العلم عن العالم الربّاني وهجر غيره :
     قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه إنّ هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم .

     ولهذا حذّر السلف رحمهم الله من أخذ العلم عن العالم الفاجر وعالم الدنيا .

     فقال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله إنّما هما عالمان = عالم دنيا وعالم آخرة .. فعالم الدنيا علمه منشور وعالم الآخرة علمه مستور .. فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا لا يصدّنكم بشكره .. ثم تلا هذه الآية { وإنّ كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله } .

     قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعوّذوا بالله من فتنة العالم الفاجر .

     ولهذا نقول إن من أسوأ نكبات الدهر وأرزائه أن تبتلى أمة بفتنة عالم .

2- العبادة :
     قال تعالى { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } .

     قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل فما أصنع بالعلم الذي كتبت .

     ولذلك إذا رأيت طالب علم يتعلّل بترك نوافل العبادات مع القدرة عليها بقول الإمامين الشافعي وابن حنبل رضي الله عنهما بأن طلب العلم أفضل من نوافل العبادات فاغسل يديك من فلاحه .. لأن حالهم مع النوافل يبين مرادهم فتنبّه!!

     قال الإمام الأوزاعي رحمه الله كان يقال ويل للمتفقهين لغير العبادة والمستحلين الحرمات بالشبهات .


3- ملازمة المروءة :
     وهي آداب نفسانية تحمل صاحبها على التحلّي بمحاسن الأخلاق وجميل العادات المتعارف عليها عند أهل هذا الشأن .

     قال الإمام ابن وهب رحمه الله سمعت مالكا يقول إنّ حقا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية وأن يكون متبعا لآثار من مضت قبله .

4- تعلّم الهدي والسمت والأدب :
     قال الإمام ابن وهب رحمه الله ما تعلمت من أدَبِ مالك أفضل من علمه .

     قال الإمام ابراهيم النخعي رحمه الله كنّا نأتي مسروقا فنتعلّم من هديه ودله .

     ولما تجاهل طلاب العلم أصوله لم يفلح منهم سوى نزر يسير .. قال الإمام شعيب بن حرب رحمه الله كنّا نطلب الحديث أربعة آلاف فما أنجب منّا إلا أربعة .. وقيل للإمام الأعمش رحمه الله : يا أبا محمد قد أحييت العلم بكثرة من يأخذ عنك ..فقال لا تعجب ..فإن ثُلُثا يموتون قبل أن يدركوا وثُلُثا يلزمون السلطان فهم شرٌ من الموتى ومن الثُلُث الثالث قليل من يفلح .


لماذا الحاجة إلى العالم الرباني :

     1- لأنه يحمل الكتاب والسنة معه .. يعيشهما في حياته وفي أمته .
     2- لأنه يؤم الناس خارج المسجد في جميع مجالات الحياة وميادينها ومساحاتها الأخرى.
     3- لأنه لا يفصل في واقع حياته واهتماماته ونشاطاته ولسان حاله بين الدين وشؤون الحياة الأخرى .
     4- لأنه العالم الذي يقرأ الناس فيه تصرفات الرجل الوقور ذي الحكمة والرزانة.
     5- لأنه الذي يحي بين الناس التفسير الأخلاقي للدين الصحيح .
     6- لأنه الذي يعيد ثقة الناس بحملة الدين ورموز الإسلام .
     7- لأنه الذي يعيد ربط الوشائج بين الشباب ورموزهم العلمية .

     فيا طالب العلم إذا يسّر الله لكَ وأدركت عالما ربّانيّاً فسارع إليه والزم عتبة داره!!

     فإن أخشى ما أخشاه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا .. إنما يقبض العلماء ) وقوله ( إنّ الله لا ينزع العلم من الناس بعد أن يؤتيهم إياه .. ولكنه يذهب بالعلماء .. فكلما ذهب بعالم ذهب بما معه من العلم ) رواهما البخاري في صحيحه.

     قال الصحابي ابن عباس رضي الله عنهما لما مات شيخه الصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه : " من سرّه أن ينظرَ كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه " .

     " فموت العالم نجمٌ طُمس ..موت العالم كسرٌ لا ينجبر ..وثُلمةٌ لا تُسد " .

لوازم طلب العلم :

     1- استحضار عظمة العلم الشرعي وإجلاله .

     2- الاهتمام بالغاية من الطلب :
     قال الإمام حمّاد بن سلمة رحمه الله : " من طلب الحديث لغير الله مُكِرَ به " وما أكثر من مُكِرَ به في زماننا .. فزهد الناس فيه وهان في أعينهم !!.

     3- القراءة : 
     أن يعتقد في قراءته رفع الجهل عن نفسه وأنها من طلب العلم .
          أن تكون قراءته تأصيلية : قراءة درس وضبط وتحصيل .
          القراءة السريعة وتنمية الاستيعاب .
          تكرار قراءة الكتب الأصلية .
          الاعتناء بكتب المتقدّمين .
          تدوين الفوائد .
          كتابة الحواشي .
          التأمل والتفكير أثناء القراءة وبعدها.

     4- الشغف بالعلم :
     قال أبو العباس المبرّد ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة – وذكر منهم الجاحظ – فقال فأما الجاحظ فإنّه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره .. أيّ كتاب كان حتى إنّه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر في الكتب.

     5- تقييد العلم :
     وهي فوائد ونكت علمية وبحوث استفادها طالب العلم من شيوخه وقراءاته .. قال أبو سعد السمان من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام .. وقال علي ابن المديني انتهى علم الناس إلى يحى بن معين ..وقال عبدالخالق بن منصور قلت لعبدالله بن الرومي سمعت بعض أصحاب الحديث يحدّث بأحاديث يحى بن معين ويقول حدثني من لم تطلع الشمس على أكبر منه .. فقال ابن الرومي وما تعجب ؟ سمعت علي بن المديني يقول ما رأيتُ في الناس مثله ..وما نعلم أحدا من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحى بن معين ..قال محمد بن نصر المروزي سمعت يحى بن معين يقول كتبت بيدي ألف ألف حديث.

     قال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة المحدث ابن شاهين : هو الحافظ الإمام المفيد المكثر محدّث العراق صاحب التصانيف .. صنّف شيئا كثيرا .. قال أبو الحسين بن المهتدي بالله قال لنا ابن شاهين صنّفت ثلاث مئة مصنّف وثلاثين مصنّفا منها التفسير الكبير ألف جزء ومنا المسند ألف وثلاث مئة جزء والتاريخ مئة وخمسون جزءا والزهد مئة جزء .

     قال الموفق عبداللطيف كان ابن الجوزي لا يضيع من زمانه شيئا .. يكتب في اليوم أربعة كراريس ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين .

     6- الرحلة في الطلب ( المدارس والدورات العلمية خارج مدينته ) :
     قال الحافظ ابن حجر رحمه الله قيل لأحمد بن حنبل رجلٌ يطلب العلم يلزمُ رجلاً عنده علمٌ كثيرٌ أو يرحل ؟ قال يرحل يكتب عن علماء الأمصار .. فيُشامُّ الناس ويتعلّم منهم .

     وقال ابن معين أربعة لا تؤنس منهم رشدا وذكر منهم رجلاً يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث .

     قال مكحول الشامي أُعتقتُ بمصر فلم أدعْ علما إلا حويته فيما أُرى .. ثم أتيتُ العراق فلم أدعْ بها علما إلا حويته فيما أُرى .. ثم أتيتُ المدينة فكذلك .. ثم أتيتُ الشام فغربلتُها .. كلُّ ذلك أسأل عن النّفل .وقال الحافظ يعقوب بن سفيان كتبت عن ألفي شيخ وكسر .. كُلُّهم ثقات .. وأقمت في الرحلة ثلاثين سنة .

     قال ابن المؤمل ما بقي بلد لم يدخله الفضل الشّعْراني في طلب الحديث إلا الأندلس.

     وهل يُظنُّ أن أحداً من أولئك العلماء أتونا بذلك العلم بذهابهم مرة في كل أسبوع لحضور درس ما بين العشائين !!

     7- الإنفاق على طلب العلم :
     قال الإمام الفقيه المجتهد محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ترك لي أبي ثلاثين ألف درهم .. فأنفقت خمسة عشر ألفا على النحو والشعر وخمسة عشر ألفا على الحديث والفقه.

     قال ابن وضّاح أنفق ابن القاسم في سفرته إلى مالك ألف مثقال وقال الذهبي بلغنا عن ابن القاسم قال خرجت إلى الحجاز اثنتي عشرة مرة أنفقت في كل مرة ألف دينار .

     قال حمدان بن هانئ سمعت خلف بن هشام يقول أشكل عليّ باب في النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته .

     ولهذا يقول الإمام مالك بن أنس لا يُنال هذا الأمر – يعني العلم – حتى يُذاق فيه طعم الفقر .

     فإذا رأيت طالب علم ينفقُ على هندامه وهيئته وملهياته أضعاف ما ينفق على العلم وشراء الكتب فلا ترجوا منه خيرا !!

     8- لا استكبار في طلب العلم :
     قال الفارسي لقد سمعت الشيخ أبا الحسن عليّ بن فضّال بن علي المجاشعي القيرواني النحوي القادم علينا سنة تسع وستين وأربع مئة وقد قبِلَهُ الإمام فخرُ الإسلام إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجويني وقابلهُ بالإكرام وأخذ في قراءة النحو عليه والتلمذة له بعد أن كان إمام الأئمة في وقته ( يعني الجويني ) وقد بلغ من العمر خمسين سنة .. وكان يحملهُ كل يوم إلى داره ويقرأ عليه كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب من تصنيفه .. فكان أبو الحسن المجاشعي يحكي ويقول ما رأيت عاشقا للعلم مثل هذا الإمام فإنّه يطلب العلم للعلم وكان كذلك .

     9- لا تخصص إلا بعد كمال :
     وهذه مسألة على طالب العلم استيعابها جيداً ..لأن ما يصنعه طلاب العلم في زماننا بعيد كل البعد عن منهج السلف رحمهم الله .. قال عبدالملك بن حبيب سمعت ابن الماجشون يقول كانوا يقولون لا يكون إماماً في الفقه من لم يكن إماماً في القرآن والآثار ولا يكون إماما في الآثار من لم يكن إماماً في الفقه .

     قال الإمام الأزهري رحمه الله كان الدارقطني ذكيا إذا ذُكر له شيئا من العلم أي نوع كان وُجِد عنده منه نصيب وافر .

     ومعنى هذا الكلام استيعاب الطالب للعلوم الأصلية القرآن والتفسير والحديث والعقيدة والفقه واللغة والنحو لترابط هذه العلوم بعضها ببعض .

     مسألة : متى يكون التخصص ؟
     فالجواب أن التخصص لا يكون إلا بعد أن يستكمل الطالب مراتب التأسيس في العلوم الأصلية – بعد حفظ كتاب الله حفظا متقناً –

     فإذا بدأ بالتفسير مثلا فيجب عليه أن يقرأ تفسير الجلالين أو الواحدي ويستظهره على أقل تقدير ثم ينتقل إلى ابن كثير ثم يختم بفتح القدير .

     وفي الحديث العمدة ثم البلوغ أو المحرر ثم المنتقى  ويكثر من قراءة الكتب التسعة والزوائد.
وهكذا حتى يختم العلوم الأصلية .. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التخصص .

     مسألة : كيف يكون التخصص ؟
     الجواب إتقان الفن المراد التخصص فيه والتدقيق في مسائله والإحاطة بجميع جوانبه .

     فإذا أخذنا علم الحديث كمثال – لأنه مما تشتهيه نفوس طلاب العلم في هذا العصر مع جهلهم وتجاهلهم للأهم وهو القرآن وعلومه – فعليه :

أ- حفظ السنة :
     الكتب الستة وزوائد المتن والإسناد لمسند أحمد والموطأ وسنن الدارمي وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والمستدرك وسنن البيهقي الكبرى وسنن الدارقطني ومصنف ابن أبي شيبة وعبدالرزاق ثم يستظهر المعاجم الثلاثة للطبراني ومسند الطيالسي والموصلي والحميدي وغيرها من كتب الحديث .

ب- قراءة واستظهار شروح كتب الحديث :
     فإذا بدء بالبخاري فعليه أن يطالع أعلام الحديث للخطابي وشرح الكرماني وابن بطال والعيني والقسطلاني وابن حجر وابن رجب والكشميري والسندي .. الخ .
     ويطالع كتب غريب الحديث كغريب الحديث لابن سلام وابن الجوزي وابن قتيبة والخطابي والحربي وابن الأثير .

     فإذا فرغ من شروح كتب الحديث انتقل إلى شروح كتب أحاديث الأحكام كشرح ابن دقيق العيد وابن الملقن وابن بسام على العمدة وشرح الشوكاني على المنتقى والصنعاني وابن بسام على البلوغ ثم ينتقل إلى شرح السنة للبغوي وشرح المشكاة للقاري والمباركفوري ومشارق الأنوار ودليل الفالحين ومعاني الآثار وتهذيب الآثار  وهكذا حتى لا يبقي من ذلك شيء.

     ج- معرفة رجال الحديث :
     فيبدأ بالتقريب والكاشف ثم التهذيب وتهذيب الكمال وميزان الاعتدال ولسانه والكامل والتواريخ الثلاثة للبخاري والثقات والمجروحين لابن حبان وتواريخ ابن معين والجرح والتعديل لا بن أبي حاتم وكتب السؤالات وتراجم رجال البيهقي والحاكم والضعفاء للعقيلي وأبي نعيم والمغني في الضعفاء وتاريخ أسماء الثقات لابن شاهين ومعرفة الثقات للعجلي وكتب التدليس والتراجم والطبقات وغيرها حتى يسبر ويستقرئ أحوال الرجال .

     د- مصطلح الحديث :
     فيبدأ بالنخبة وشروحها ثم توضيح الأفكار والمقدمة وشروحها والباعث والموقظة وشروحها والغاية وتدريب الراوي والألفية وشروحها والكفاية والمعرفة والمخزون ورسوم التحديث والجامع ومقدمة مسلم ونصيحة أهل الحديث والمحدث الفاصل والاقتراح والتذكرة وتقييد العلم وهدي الساري وقواعد التحديث ثم ينتقل إلى تحقيق ألفاظ المصطلح عند المحدثين السابقين .. ثم الكتب التي تتحدث عن باب من أبواب المصطلح ككتب المراسيل والمضطرب والناسخ والأسماء المبهمة والكنى والألقاب ومعجم الشيوخ وغيرها .

     ه- علل الحديث :
     فيبدأ بشرح علل الترمذي لابن رجب ثم ينتقل للعلل لابن حنبل وابن أبي حاتم والدارقطني وابن المديني وعلل الترمذي الكبير وغيرها .

     و- التخريج :
     يطالع نصب الراية والبدر المنير والتلخيص والإرواء والسلسلتين للألباني .

     ويتخلل ذلك دراسة لأحاديث من اختلف فيهم.. ولا يضيره أن يمكث بضعة عشر عاما في دراسة هذا التخصص.. حتى يتقنه ليستحق لقب الحافظ والمحدّث .

     10- الإكثار من سؤال العالم :
     قال روّاد بن الجراح قدم سفيان الثوري عسقلان فمكث ثلاثا لا يسأله أحد في شيء .. فقال  أكثر لي أخرج من هذا البلد .. هذا بلدٌ يموت فيه العلم .

11- أظهر البطاقة الحمراء للأشخاص الكسالى والبطّالين .

     12- إتقان العلم والتدقيق فيه :
     قال الزعفراني تلميذ الإمام الشافعي رضي الله عنه سمعت الشافعي يقول من تعلّم علماً فليدقّق لكيلا يضيع دقيقُ العلم .

     قال الإمام الأزهري رحمه الله كان الدارقطني ذكيا إذا ذُكر له شيئا من العلم أي نوع كان وُجِد عنده منه نصيب وافر .

     وقال الإمام أبو بكر البرقاني رحمه الله كان الدارقطني يُملي عليّ العلل من حفظه.


ختاما :
     اعلم بارك لله فيك ونفع بك أن لا مستحيل مع الإخلاص والعزيمة الصادقة والهمة العالية والاستعانة بالله .. ذكر في ترجمة الإمام ابن حزم أنّه طلب العلم مع كِبَر في السن .

     وأختم رسالتي لك يا طالب العلم بنبوءة عالم فاحذر أن تكون ممن عنى:

     قال الإمام يزيد بن قودر رحمه الله : "يوشك أن ترى رجالاً يطلبون العلم فيتغايرون عليه كما يتغاير الفسّاق على المرأة هو حظّهم منه" !! .
     والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..والسلام عليكم ,,,

     تم الفراغ من تقييد هذه الرسالة في اليوم الثاني من شهر صفر للعام الثلاثين بعد الأربعمائة والألف بمدينة الرياض .
بقلم
تركي بن سعد البواردي





المراجع :

1- سير أعلام النبلاء للذهبي .
2- تهذيب الكمال للمزي .
3- المدخل لمذهب الإمام الشافعي للقواسمي .
4- تفسير ابن كثير .
5- التعليقات الرضية على الروضة الندية لصديق خان .
6- شرح العقيدة الطحاوية .
7- التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن للسخاوي .
8- فتح العلام لزكريا الأنصاري .
9- تحقيق الرغبة في توضيح النخبة للخضير .
10- النكت على نزهية النظر للحلبي .
11- منظومة المقدمة الجزرية للجزري .
12- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي .
13- جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر .
14- صفحات من صبر العلماء لأبي غدة .
15- قيمة الزمن لأبي غدة .
16- حلية طالب العلم لبكر أبوزيد .
17- أخلاق العماء للآجري .
18- أخلاق حملة القرآن للآجري .
19- قراءة القراءة لفهد الحمود .
20- نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية للشريف حاتم العوني .
21- الأعلام للزركلي .
22- طبقات الشافعية للسبكي .
23- مشيخة أبي المواهب الحنبلي .
24- الضوء اللامع للسخاوي .
25- البدر الطالع للشوكاني .
26- مآلات الخطاب المدني للسكران .
27- ترجمة سعد بن عتيق لمحمد زياد بن عمر .
28- ترجمة عبالرحمن بن قاسم لعمار الجبرين .
29- نصيحة الإخوان للقاني تحقيق آل محمود .
30- مسند الحجاز المحدث عبدالله البصري لرضا السنوسي .
31- ترجمة بكر أبو زيد للغامدي .
32- علماء نجد للبسام .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق