التربية الإسلامية علمٌ ثنائي المصدر
بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
أُستاذ التربية الإسلامية المُساعد
و مدير مركز البحوث التربوية
بكلية المعلمين في أبها
1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
:
الحمد
لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فلابد
للتربية من مصادر معينة تُستقى منها ، وركائز ثابتة تعتمد عليها في بنائها ،
وانطلاقاً من كون التربية الإسلامية نابعةً في الأصل من الدين الإسلامي الحنيف ؛
فإن مصادرها الأساسية هي نفس مصادر هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله تعالى
للعالمين بقوله في مُحكم التنزيل :
} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِيناً { ( سورة المائدة : الآية 3
) .
والذي
قال I في شأنه : } وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ { ( سورة آل عمران :
الآية 85 ) .
ولعل
من يُطالع كثيراً من الكتب والأبحاث والدراسات التربوية يجد أن هناك عدم اتفاقٍ
حول مصادر التربية الإسلامية كعلمٍ من العلوم التي تندرج تحت مظلة العلوم التربوية
؛ فهناك من يُسهب ويُطنب في تعداد تلك المصادر ، وهناك من يُوجز ويختصر . وما ذلك
بطبيعة الحال إلا نتيجةً لتباين الاجتهادات واختلاف وجهات النظر في هذا الشأن الذي
لا يُمكن القول بوجود نصٌ قطعي الدلالة عليه .
من
هنا ، فإنني سأُُحاول فيما يلي التوفيق بين وجهات النظر المُختلفة في هذا الشأن ،
والاجتهاد في تحديد مصادر التربية الإسلامية كعلمٍ تربويٍ يعتمد على مصادر مُحددةٍ
يمكن أن نُشُير إليها فيما يلي :
أولاً
) القرآن الكريم :
وهو
كتاب الله العظيم الذي أوحاه جل شأنه إلى نبيه محمدٍ e ليكون منهج حياةٍ و دستور أُمة . وهو المصدر الأول والرئيس لكل ما
تحتاجه البشرية في مختلف المجالات العلمية ، وشتى الميادين المعرفية ، وفي كل
جزئيةٍ من جزئيات حياتها مصداقاً لقوله Y : } مَا فَـرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْء ٍ{ ( سورة الأنعام : من الآية
38 ) .
ويُعد
القرآن الكريم " أهم مصدرٍ من مصادر بناء الإنسان المسلم ، لأنه نزل لهداية
البشرية إلى ما فيه صلاح دنياهم وأُخراهم " ( علي خليل أبو العينين ، 1408هـ
، ص 22 ) .
وعلى
الرغم من كون القرآن الكريم المصدر الأول والرئيس للتربية الإسلامية ؛ إلا أنه من
الخطأ أن يقال : إن القرآن الكريم كتابٌ تربوي ؛ إذ إن القرآن الكريم أعلى وأسمى ،
وأجل وأشمل من أن يقتصر على علمٍ أو مجالٍ واحدٍ أو يُحصر فيه ؛ فهو منهجٌ إلهيٌ
شاملٌ ، ودستورٌ ربانيٌ كاملٌ لجميع المجالات العلمية ، والميادين المعرفية دينيةً
كانت أو دنيوية ، وهو ما يؤكده أحد الباحثين المُعاصرين في التربية الإسلامية
بقوله :
"
فالوحي هو الموضوع الأساسي لجميع العلوم ، بل إن الحضارة الإسلامية كلها إن هي إلا
محاولةٌ لعرضٍ فكريٍ منهجيٍ لهذا الوحي ، ويتضح ذلك من أبنية العلوم نفسها "
( عبد الرحمن النقيب ، 1425هـ ، ص 120 ) .
وليس
هذا فحسب ؛ فإن من أبرز ميزات القرآن الكريم التي لا يُشاركه فيها غيره من المصادر
الأخرى ؛ أنه يُعد مصدراً ومقياساً لغيره " فليس القرآن الكريم مجرد مصدرٍ من
المصادر ؛ بل هو المصدر المقياس لكل تفكيـرٍ يُراد وصفه بأنه إسلامي ، مثلما أنه
المصدر والمقياس لكل تشريعٍ واستنباطٍ فقهي ، وذلك بالإضافة إلى كونه المنبع
الأساسي لكل وجهة نظرٍ إسلامية . وكونه المقياس يعني أنه المقياس الوحيد ، وإذا
كان ثـمة من مصادر أخرى فما هي إلا بيانٌ له ، أو تفصيلٌ لمقتضيات نصوصه
ودلالاتـها . فهو مشكاة هذه المصادر ، وهو مبدؤها ، وإليه تعود " ( عبد
القادر هاشم رمزي ، 1404هـ ، ص 39 ) .
وانطلاقاً
من ذلك الشمول فقد كان للقرآن الكريم أثرٌ كبيرٌ وواضحٌ في تربية الرسول e وصحابته الكرام ؛ الذين
تربوا في ضوء منهجه الرباني ، وتتلمذوا على معاني آياته الكريمة ؛ فنالوا به الشرف
العظيم ، والمنـزلة الرفيعة التي جعلتهم قادةً للبشر بعد أن كانوا عُباداً للحجر ،
وحولتهم إلى زعماء للأمم بعد أن كانوا رعاةً للغنم . وما ذلك إلا لشدة تعلقهم
وعظيم تأثرهم - رضوان الله عليهم - بالقرآن الكريم ، وحرصهم على الالتزام بمنهجه ،
والتخلق بأخلاقه ، والعمل بأوامره ، والبعد عن نواهيه .
ولهذا
فليس غريباً أن يكون " للقرآن وقعٌ عظيم ، وأثرٌ بالغ في نفوس المسلمين ، حتى
[ أنه ] شغلهم عن الشِعرِ ، وكانوا من أشد الناس تعلقاً به ، وعن الحكم والكِهَانة
، وأخبار الفروسية ، وأخبار العرب في جاهليتهم " ( عبد الرحمن النحلاوي ،
1403هـ ، ص 22 ) .
كما
أنه ليس غريباً أن يكون القرآن الكريم المصدر الأول و الرئيس للتربية الإسلامية ،
والمحور الذي تتمركز حوله العملية التربوية عند المُسلمين ، فقد قال الله تعالى في
شأنه : } إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ { ( سورة الإسراء : من الآية
9 ) .
وقال
سبحانه وتعالى في وصفه : } لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد ٍ{ ( سورة فصلت : الآية 42 ) . فكان لابد للتربية الإسلامية أن تستمد
منه أُسسها الراسخة ، و أهدافها السامية ، ومبادئها الخالدة ، وقيمها النبيلة ،
وتعاليمها الربانية ، وتوجيهاتها السديدة التي تكفلُ إعداد الإنسان المسلم الصالح
في كل جوانب حياته ، وإقامة المجتمع المسلم المثالي في كل شأنٍ من شؤونه ، وكل
جزئيةٍ من جزئياته " فهي لا تقتصر على المسجد أو المعهد ، ولا تختص بالعبادة
دون السلوك ، أو تهتم بالفرد وتترك المجتمع ، أو تُعنى بالعقيدة و تهمل العمل ،
إنما تشمل كل جوانب النفس ، وتعمل في كل ميادين الحياة . وعلى أساس هذا الشمول
يقوم منهج القرآن في التربية " ( محمد شديد ، د . ت ، ص 7 ) .
ثانياً
) السُنَّـة النبوية المطهرة :
هي
المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي لكونها جاءت وحياً من الله I ، أجراه على لسان رسوله e . قال سبحانه وتعالى : } وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى $ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى $ عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى { ( سورة النجم : الآيات 3
- 5 ) .
وقال
تعالى : } وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { ( سورة الحشر : من الآية 7 ) .
والسُّنة
في اللغة العربية تعني " الطريقة ؛ مُرضيةً كانت أو غير مُرضية ؛ وفي الشريعة
هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراضٍ ولا وجوب " ( علي بن محمد
الجرجاني ، 1408هـ ، ص 122) .
وقد
تُعرَّف السُّنة بأنها " ما أُثر عن النبي محمد e من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ " ( مصطفى السباعي ، 1398هـ ، ص 47 ) .
والمعنى
أن السُّنة في المجال التربوي تعني الطريقة ، أو الأسلوب ، أو المنهاج التفصيلي ،
أو الكيفية التي تُبيِّن و تُفَصّلُ كل جزئيةٍ في حياة الإنسان و المجتمع المسلم .
وحيث
إن شخصية النبي e تُمثل و تُجسد تعاليم
وتربية الإسلام قولاً وأداءً وتعاملاً في مختلف شـؤون حياته من عباداتٍ ومعاملاتٍ
؛ سواءً أكان ذلك الأداء قوليـًّا ، أو فعليـًّا ، أو موافقةً منه e لما صدر عن بعض أصحابه -
رضوان الله عليهم - من الأقوال أو الأفعال ؛ فإن هذا يعني أنه e بمثابة " المثال
الإنساني المتفرد ، الذي يُعتبر اتِّباعُه والتأسي به جزءًا أساسياً من التكليف
الإلهي المتكامل الوارد في الكتاب والسُنة ، سواءً أثناء بعثته ، أو بعد موته ،
وإلى يوم القيامة .. وهو المثال الذي ينبغي أن يُحتذى في كل ما ثَبَتَ أنه فعله ،
أو قاله ، أو قرَّره ، دون أن يطمح أحدٌ في بلوغ مرتبته سواءً في الأداء ، أو في
الإحسان ، أو في الثواب " ( عبد القادر هاشم رمزي ، 1404هـ ، ص 58 ) .
وعلى
الرغم من أن للسنة النبوية وظائف كثيرة ومنافع عظيمة في حياة الفرد والجماعة ، إلا
أن من أبرز وظائفها العمل على إيضاح وبيان وتفسير ما جاء في آيات القرآن الكريم من
أحكام وتشريعات في مختلف المجالات والميادين ؛ وإلى هذا المعنى يُشير قوله تعالى :
} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ { ( سورة النحل : من الآية
44 ) . إضافةً إلى أن السنة النبوية مجالٌ واسعٌ وخصب لاستنباط التشريعات ،
والآداب ، والضوابط ، والدروس والتوجيهات التي يحتاج إليها الناس في المواقف
والأحوال المختلفة .
وهذا يعني أن " للسُنة النبوية في المجال
التربوي فائدتين عظيمتين :
أ
- إيضاح المنهج التربوي الإسلامي المتكامل الوارد في القرآن الكريم ؛ وبيان
التفاصيل التي لم ترد في القرآن الكريم .
ب
- استنباط أسلوب تربوي من حياة الرسول e مع أصحابه ، ومعاملته الأولاد ، وغرسه الإيمان في النفوس "
(عبد الرحمن النحلاوي ، 1403هـ ، ص 25 ) .
ويأتي
استنباط المنهج التربوي من حياة الرسول e على اعتبار أنه المربي والمعلم والقدوة الذي اصطفاه الله Y من عباده لأداء رسالته
إليهم ، وتبليغهم إياها قولاً وعملاً . ومن ثم تربيتهم وتعليمهم في ضوئها تربيةً
إسلاميةً صحيحةً ليخرجهم من الظلمات إلى النور . قال جل من قائل : } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ { ( سورة الجمعة : الآية 2
) .
وهذا
يعني أن شخصية النبي e هي الشخصية الوحيدة التي
ينبغي للمسلم أن يقتدي بها في أي زمانٍ ومكان ، وأن يعتبرها الأُسوة الحسنة له في
كل شأنه ، والمثل الأعلى الوحيد له في حياته ، تنفيذاً لقوله I : } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ { ( سورة الأحزاب : من
الآية 21 ) .
ولأن
شخصية النبي e؛ هي الشخصية الإنسانية
المثالية التي يجد فيها الإنسان " مربياً عظيماً ذا أُسلوبٍ تربويٍ فذّ ،
يُراعي حاجات الطفولة ، وطبيعتها ، ويأمر بمخاطبة الناس على قدر عقولهم ، أي يراعي
الفروق الفردية بينهم ، كما يُراعي مواهبهم واستعداداتهم وطبائعهم ، يُراعي في
المرأة أنوثتها ، وفي الرجل رجولته ، وفي الكهل كهولته ، وفي الطفل طفولته ،
ويلتمس دوافعهم الغريزية ؛ فيجود بالمال لمن يُحب المال حتى يتألف قلبه ، ويُقرِّب
إليه من يُحب المكانة لأنه في قومه ذو مكانة ، وهو من خلال ذلك كله يدعوهم إلى
الله و إلى تطبيق شريعته ، لتكميل فطرتهم ، وتهذيب نفوسهم شيئاً فشيئاً ، وتوحيد
نوازعهم وقلوبهم ، وتوجيه طاقاتهم وحُسن استغلالها للخير والسمو " (عبد
الرحمن النحلاوي ، 1403هـ ، ص ص 25- 26 ) .
من
ذلك كله ؛ يمكن القول : إن السنة النبوية المطهرة بما ثبت فيها من أقوالٍ ،
وأفعالٍ ، و تقريراتٍ نبوية كريمة تُعد مصدراً رئيساً من مصادر التربية الإسلامية
، لكونها المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام ، ولأنها بمثابة الجانب
التطبيقي أو الميداني لما جاء في القرآن الكريم من أصول ، ومبادئ ، ومفاهيم تربوية
رئيسة ، ولكون شخصية النبي e تُعد بحق خير أُنموذجٍ بشريٍ فردي لهذا التطبيق ، كما أن الصحابة
-رضوان الله عليهم -كانوا أفضل أُنموذجٍ بشريٍ مجتمعي لما يجب أن يكون عليه
المجتمع الإنساني .
وانطلاقاً
من ذلك فقد تنبَّه علماء الأمة إلى هذا الجانب الهام ، فقام الكثير منهم بمحاولة
تصنيف الأحاديث النبوية ، وجمع ما كان له علاقةٌ بالجانب التربوي في عددٍ من الكتب
والمؤلفات التي تتحدث عن بعض الملامح والتوجيهات والدروس المستفادة من هدي التربية
النبوية ، ومنهجها العظيم ، وأهدافها السامية ، وأساليبها المتعددة في جوانب
مختلفة من الحياة .
وليس
هذا فحسب ؛ فهناك كثيرٌ من الدراسات والاجتهادات التي ركَّزت على المضامين ،
والمفاهيم ، و الأبعاد ، والآداب ، والدروس التربوية النبوية؛ فكُتبت الكتب ،
وأُلفت المؤلفات ، وأُعدَّت الدراسات المتنوعة التي توضح بما لا شك فيه أن السُّنة
النبوية المطهرة مصدرٌ تربويٌ رئيسٌ وزاخرٌ بالكثير من المبادئ ، والقيم ، والأهداف ، والأساليب ، والمضامين ،
والدروس ذات العلاقة بحياة الإنسان والمجتمع المسلم .
وكما
أن للتربية مصادر أساسية يتفق الجميع عليها ، ولا يختلفون في أهميتها للعملية
التربوية في الإسلام ، وتتمثلُ في القرآن الكريم و السُنة النبوية المطهرة؛ فإن
هناك مصادر أُخرى تأتي تابعةً للمصدرين الرئيسيين السابقين ، وهي :
ثالثاً
) تُراث ومنهج السلف الصالح :
ويُقصد بهذا التُراث والمنهج مجموع الآراء ، والأفكار
، والاجتهادات ، والنظريات ، والتطبيقات والمُمارسات التربوية التي صدرت عن
المهتمين بالجانب التربوي من العلماء ، والفقهاء ، والمربين ، والمفكرين المسلمين
عبر عصور الحضارة الإسلامية ؛ على اعتبار أن " التراث الإسلامي هو ما ورثناه
عن آبائنا من عقيدةٍ وثقافةٍ ، وقيمٍ ،
وآدابٍ ، وفنونٍ ، وصناعاتٍ ، وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية
" ( أكرم ضياء العمري ، 1406هـ ، ص 27 ) .
ونظراً
لأن مجموع هذا التراث أو ما يمكن أن يُسمى بالموروث الثقافي لا يخرج عن كونه
اجتهاداتٍ بشريةٍ أملتها الكثير من الظروف والعوامل المختلفة ؛ فإن علينا ألا نقبل
بكل ما جاء في هذا التراث على إطلاقه ؛ وإن نخضعه للنظر والتحقيق والدراسة ، فما
كان منه صالحاًً ومتفقاً مع كتاب الله العظيم ، وسنة رسوله الكريم ، عليه أفضل
الصلاة والتسليم ؛ قبلناه وأخذناه وعملنا به ، وما كان مخالفاً لهما تركناه
ورفضناه ؛ وهو ما يُشير إليه أحد الباحثين بقوله :
"
فآراء هؤلاء جميعاً [ أي علماء السلف ] تُمثل اجتهاداتٍ في تفسير الإسلام
وتوجيهاته في بناء الإنسان ، لهم عليها الأجر من الله ، وعلينا واجب النظر
والتحقيق" ( يوسف عبد المعطي ، 1415هـ ، ص 37 ) .
والمعنى
أن مجموع كتابات ومؤلفات المسلمين التي تُشير إلى بعض الأفكار ، والآراء ،
والمضامين ، والتوجيهات ، والدروس التربوية تُعد مصدراً غنيًّا من مصادر التربية
الإسلامية ؛ نظراً لما لها من قيمةٍ علميةٍ ، ولكونها صدرت عن علماء مسلمين كان
لهم فضل الاجتهاد في ظروفٍ و أزمنةٍ مختلفة تلبيةً لحاجات المجتمع ، وتفاعلاً مع
أوضاعه المختلفة ؛ إضافةً إلى " أن الإسهام الإسلامي عبر العصور فيه اجتهادٌ
مُتعدد في شتى مجالات التربية ، والعودة إلى التُراث التربوي الإسلامي ليس من أجل
الأخذ به كمُسلمات ، ولكن للاستفادة [ منه ] في كيفية فهمهم للنص الإسلامي ،
وكيفية تطبيقهم لهذا النص على عصرهم وظُروفهم ، أي أنها عودةٌ للاستئناس
والاسترشاد وليست عودة للتطبيق الأعمى أو الأخذ الحرفي ؛ فلكُل عصرٍ رجاله ، ولكل
عصرٍ اجتهاداته التربوية " ( عبد الرحمن النقيب ومنى السَّالوس ، 1420هـ ، ص
19 ) .
وعلى الرغم من أن هناك تُراثاً علمياً
وثقافياً ضخماً لسلفنا الصالح في مختلف ميادين العلوم التربوية على وجه الخصوص؛
إلا إن من أبرز الكتابات فيها ما يلي :
آداب المعلمين والمتعلمين لمحمد بن سحنون
التنوخي .
سياسة الصبيان وتدبيرهم لأحمد بن إبراهيم
المعروف بابن الجزار القيرواني .
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لأحمد بن محمد
المعروف بابن مسكويه .
جامع بيان العلم وفضله ليوسف بن عبد البر.
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب
البغدادي .
تعليم المتعلم طريق التعلم لبرهان الإسلام
الزرنوجي .
تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم
والمتعلم لبدر الدين بن جماعة .
الرسالة المفصلة لأحكام المعلمين والمتعلمين
لأبي الحسن علي بن محمد القابسي .
أدب الإملاء و الاستملاء لعبد الكريم بن
محمد السمعاني .
أخلاق العلماء لأبي بكرٍ الآجُري .
أدب الطلب ومُنتهى الأرب لمحمد بن علي
الشوكاني .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك مفهوماً
خاطئاً عند بعض الباحثين والكُتاب في الميدان التربوي ؛ حيث إن منهم من يرى أن
القرآن الكريم والسُنة المطهرة يُعدان من التراث الإسلامي وهذا غير صحيح أبداً ؛
لأنهما غير موروثين من زمنٍ لزمن ، ولا من جيلٍ لجيل ، ولكنهما جاءا لكل زمانٍ
ومكان . يُضاف إلى ذلك أن لفظة التراث كثيراً ما تُطلق على القديم البالي ؛ وهو ما
لا ينطبق على القرآن الكريم والسنة النبوية فهما متجددان تجدد الليل والنهار ؛ ولا
يُمكن أبداً إخضاعهما للمقاييس البشرية من حيث الانتقاء والاختيار ، والقِدم
والجِدَّة .
رابعاً
) الصالح من الفكر التربوي القديم و الحديث :
ويُقصد بذلك مجموع الدراسات ، والأبحاث ،
والملاحظات العلمية ، والطروحات الفكرية التربوية القديمة أو المُعاصرة التي يُمكن
الإفادة منها في معالجة القضايا والمشكلات التربوية المختلفة ، ولاسيما أن المجال
التربوي يُعد مُتطوراً ومُتجدداً ، وغير ثابتٍ أو مستقر ؛ فكان لا بُد من الانفتاح
المُنضبط والإيجابي على مُختلف المعطيات الحضارية القديمة أو المُعاصرة شرقيةً
كانت أو غربية ؛ للإفادة مما وصل إليه التقدم العلمي والحضاري في مختلف المجالات
والميادين ، مع مراعاة أن تتم الإفادة من الجانب الإيجابي فيها ، والذي لا يتعارض
بأي حالٍ مع ثوابتنا الشرعية وتعاليم ديننا السمحة . وإلى هذا يُشير أحد المهتمين
بقوله :
"
ورجوع المجتمع المسلم إلى مصدر الدين في تحديد فلسفته وأهدافه التربوية ، لا يمنعه
من الرجوع إلى المصادر الفردية والاجتماعية والعلمية التي تذكرها عادةً كتب
التربية الحديثة في معرض حديثها عن مصادر الأهداف التربوية ، والتي تتمثل عادةً في
ما كشفت عنه الدراسات والأبحاث والمُلاحظات العلمية من حاجاتٍ جسميةٍ و عقليةٍ و
روحيةٍ و نفسيةٍ و اجتماعيةٍ للفرد " ( عمر محمد التومي الشيباني ، 1395هـ ،
ص 305 ) .
الخلاصة
؛
إن التربية الإسلامية كعلم تربوي ، تُعد من
جهة التصنيف علمٌ ثنائي المصدر ؛ لأنها تجمع بين العلوم والمصادر الشرعية
الإسلامية من جهة ، والعلوم والمصادر التربوية من جهةٍ أُخرى . وهي بذلك متميزةٌ
ومنفردةٌ عن غيرها من أنواع التربية الأخرى التي جرت العادة أن تعتمد في مصادرها
على فلسفاتٍ ، أو نظرياتٍ ، أو مذاهب ، أو أفكار ، أو نحو ذلك من الاجتهادات و
الآراء البشرية المختلفة .
وبذلك
يمكن القول : إن مصادر التربية الإسلامية تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما :
1)
المصادر الأصلية ( الإلهيـة ) : وتتمثل في آيات القرآن الكريم ، وأحاديث السنة
النبوية الثابتة التي تشترك جميعها في كونها جاءت وحياً من الله الخالق سبحانه .
وهي مصادر أساسية لا يمكن أن تتحقق التربية الإسلامية الصحيحة أو تقوم بدونها .
2)
المصادر الفرعية ( البشرية ) : وتشمل مجموع تراث ومنهج السلف الصالح لهذه الأمة ،
وما فيه من اجتهاداتٍ ، وآراءٍ ، وأفكارٍ ، وتطبيقاتٍ تربويةٍ لعلماء ، وفقهاء ،
ومفكري المسلمين في الماضي والحاضر ؛ إضافةً إلى مجموع الدراسات ، والأبحاث ،
والملاحظات العلمية المُعاصرة التي تُعنى بالجانب التربوي وقضاياه المختلفة ؛
شريطة ألاَّ يؤخذ من هذه المصادر إلا ما كان صحيحاً ، وصالحاً ، وإيجابياً ، وغير
متعارضٍ مع ما جاء في المصادر الأصلية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية
المطهرة .
المصادر و المراجـع
-
القرآن الكريم .
-
أكرم ضياء العمري . ( 1406هـ ) . التُراث والمعاصرة . ضمن سلسلة كتاب الأُمَّة ،
الرقم ( 10 ) . قطر : رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية .
- الشريف علي بن محمد الجرجاني . ( 1408هـ / 1988م ) .كتاب
التعريفات . ط ( 3 ) .بيروت : دار الكتب العلمية .
- عبد
الرحمن النحلاوي . ( 1403هـ ) . أصول التربية الإسلامية وأسـاليبها . ط ( 2 ) .
دمشق : دار الفكر .
- عبد
الرحمن عبد الرحمن النقيب . ( 1425هـ /
2004م ) . المنهجية الإسلاميٍة في البحث
التربوي نموذجاً – النظرية والتطبيق - . القاهرة : دار الفكر العربي .
- عبد
الرحمن النقيب و منى السَّالوس . ( 1420هـ / 1999م ) . نحو تأصيلٍ إسلاميٍ للبحث
التربوي . القاهرة : دار النشر للجامعات .
- عبد القادر هاشم رمزي . ( 1404هـ / 1984م ) . النظرية الإسلامية
في فلسفة الدراسات الاجتماعية التربوية . الدوحة : دار الثقافة .
- علي خليل مصطفى أبو العينين . ( 1408هـ / 1988م ) . فلسفة
التربية الإسلامية في القرآن الكريم . ط ( 3 ) . المدينة المنورة : مكتبة إبراهيم
حلبي .
- عمر محمد التومي الشيباني . ( 1395هـ / 1986م ) . فلسفة التربية
الإسلامية . ط ( 6 ) . طرابلس : المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان .
-
محمد بن إسماعيل البخاري . ( 1419هـ / 1999م ) .صحـيح البـُخاري . ط ( 2 ) .
الرياض : دار السلام .
- محمد شديد . ( د . ت ) . منهج القرآن في التربية . القاهرة : دار
التوزيع والنشر الإسلامية .
- مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشيري . ( 1419هـ / 1998م ) . صحيح
مُسلم . الرياض : دار السلام .
-
مصطفى السباعي . ( 1398هـ / 1978م ) . السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي . ط (
2 ) . دمشق : المكتب الإسلامي .
- يوسف القرضاوي . ( 1411هـ / 1991م ) . كيف نتعامل مع السُنة
النبوية .. معالم وضوابط . ط ( 3 ) . الرياض : مكتبة المؤيد .
-
يوسف عبد المعطي . ( 1415هـ / 1995م ) . تربية المسلم على هدي الشريعة في مواجهة
تحديات عالمٍ مُعاصر ( منطلقات للتطوير ) . المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم
والثقافة ( إيسيسكو .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق