الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

رسالة المعلم وآداب العالم والمتعلم -1




رِسَالةُ المُعَلّمِ
وآدابُ العالم وَالمُتعلّمِ

تأليف
الدكتور : عبدالمجيد البيانوني

دكتوراة في الشريعة وعضو رابطة الأدب الإسلاميّ العالميّة
المشرف العلميّ على موقع الميثاق التربويّ

الطبعة الأولى 1413 هـ
الطبعة الثانية 1420 هـ
الطبعة الثالثة 1429 هـ
يطلب من المؤلّف ص ب /45206/ الرمز البريدي  21512/ جدّة ـ المملكة العربيّة السعوديّة
جوّال /0503619445/
البريد الضوئيّ


إهداء الطبعة الثانية

إلى روح والدي المعلّم الأول  في حياتي الذي قضى أكثر من سبع وثلاثين سنة من حياته معلّماً وطالما سمعت منه هذه الكلمة : إن الله خلقني معلّماً ..

والدي .! الذي أحبّ مهنة التعليم من قلبه ، واعتزّ بها  وأخلص لها بكلّ كيانه ، وبذل فيها جهده وطاقته ، وحرمه الإخلاص لمهنته كثيراً من اللذاذات والطموحات ، التي تطلّع إليها أقرانه ، ولم ينالوها إلا بعيداً عن هذه المهنة .!

إلى روح والدي الذي كان في تعليمه أنموذجاً يحتذى بين أقرانه ، وفي نظر جميع طلابه ، تعلّمنا منه الكثير الطيّب ، من أدب العلم ، وأخلاق المعلّمين ، والسلوك الاجتماعيّ المعطاء ، وبقي يمدّنا بتوجيهاته كباراً ، كما ربّانا عليها صغاراً ، ثمّ رأى من غرسه ما نحسب أنه أقرّ عينه ، ونرجو له حسن المنقلب عند ربّه  .

وإلى والدتي الغالية .! أمدّ الله بحياتها في عافية ، التي أخلصت القصد ، و كانت عوناً لوالدي ما وسعها الجهد ، وبذلت ما تدّخر لمتابعة تعليمي وتذليل العقبات في طريقي .
ربّ اغفر لي ولوالدي ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيراً .

ولدكم راجي الرضا
عبد المجيد


إهداء الطبعة الأولى

إلى الجنديّ المجهولِ ! الذي يرابط مع الكلمةِ الطيّبة ، والفكرةِ الحقّة ، يهذّبُ النفوسَ ، ويثقّفُ العُقولَ ، ويُعدُّ الجيلَ للغدِ المأمولِ ..

إلى الجنديّ المجهولِ عند الناسِ ، ولا يخفى مكانُه عند الله ، يبذل نفسَه ليصنعَ نهضةَ أمّتِه ..
وإلى أصحاب الرسالة حملة لواء الفلاحِ في كلّ ميدان .
وإلى الشبيبةِ الناشئةِ ، براعمِ اليومِ ورجالِ المستقبل ..
إلى أمتنا الحبيبة التي تأمل النهوض ، وتجد في طريقها شتّى العقبات ..
أقدّم هذه الرسالةَ مَعلماً على الطريق ، ومَنهجاً وذِكــرى ..
المؤلّف





بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الثانية

إنّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيّئات أعمالنا ، من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً ، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله ، أمّا بعد ؛

فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة .. وبعد ؛ فقد نفدت الطبعة الأولى من هذه الرسالة منذ سنوات ، وطلب منّي عدد من الأحبّة أن أعيد طباعتها ، فعزمت على إعادة النظر فيها قبل طباعتها واجتهدت .. ولكن مشاغل أخرى حالت دون ذلك ، إلى أن هيّأ الله تعالى لي شيئاً من متناثر الوقت ، فاغتنمت القليل الذي أخشى أن يفوت بغير جدوى ، للنظر في هذه الرسالة كرّة أخرى ، وأنا أرى أنّ ما تتناوله لا يزال جمهور المعلّمين والمتعلّمين بحاجة ماسّة إليه ، وأنّ الخلل فيه لا يعوّض بشيء ، مهما ملكنا من الوسائل التعليميّة المتقدّمة ، ومهما وضعنا من الخطط الطموحة ، وبذلنا الإمكانات بسخاء .. فأعدت النظر ، فكانت إضافات مهمّة هنا وهناك ، زانت جيد هذه الرسالة كما يزين اللؤلؤ جيد العروس .. واجتهدت ألاّ تخرج بها عن طبيعتها في الاختصار وصغر الحجم ، لتسهل مطالعتها ، ولا يملّ من قراءتها ، إذ القصد منها الذكرى ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت ، وإليه أنبت ، وإليه المصير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .

جدّة في 2/2/1420 هـ
وكتبه / عبدالمجيد البيانوني



مقدمة الطبعة الأولى

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونتوب إليه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له . اللهم اهدنا الصراط المستقيم ، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وثبّتنا على الحقّ حتّى نلقاك ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد معلم الخير وعلى آله وصحبه والتابعين . وبعد ؛

فإنّ من بدائه الحقائق أنّ الإسلام دين العلم ، وأنّ التعليم مهنة الأنبياء ، وأكرم بها من مهنة ! وكفى بالمعلّم شرفاً أن يكون على خطا الأنبياء وهديهم إذا أدّى حقّ العلم ، وكان وفيّاً بهذه الأمانة ..

وإذا كان عمل كثير من المعلّمين لا يؤتي ثمراته .؟ فلأنّهم نسوا مهمّتهم ورسالتهم وأصبحوا موظّفين ، بعيدين عن رسالة العلم ، وما تحمله من أهداف سامية ، ولم يكونوا قدوة للمتعلّمين ، وأصبح تعليمهم صورة تنسخ ، لا روحاً تنفخ ، ومادّة تملأ العقول ، لا آداباً تهذّبُ النفوسَ .. ولن تعود للتعليم روحه الإسلاميّة ما لم تسبق الآدابُ العلومَ ، والتزكيةُ التعليمَ ، غرساً وتعهّداً ورعاية ، وتتضافر على ذلك جهود الآباء والمربّين ..

وقد سألني بعض الأحبة الناشئين ممن يلوذ بي : لماذا تشكون منّا دائماً ؟ وتثنون على أساتذتكم وجيلكم ، وقد تهيّأ لنا من تقدّم أساليب التعليم ، وتوفير الكتب المجانيّة ، والمناهج المستقرّة ، ووسائل المتنوّعة التقنية مالم يتيسّر لكم منه إلاّ النزر اليسير ؟!

فأجبته على عجالة : إنّكم وجدتم كلّ شيء من الأمور الماديّة الظاهرة  ولكنّكم فقدتم : ( بركة العلم ) !

قال : ولماذا .؟ ومن المسئول عن إعطائنا ( بركة العلم ) .؟ فوجدتني مرّة أخرى أمام سؤال عليّ أن أجد جوابه ..

وعدت إلى نفسي فوجدت أنّ جانباً كبيراً من المسئوليّة يعود على الجيل الذي يُعلّم ، عندما يُعلّم وهو فاقدٌ لرسالته التي ينطلق منها ، ويسعى إلى تحقيقها .. والجانب الاخر يعود إلى الانفصام بين التعليم والتربية ، وتلقّي العلوم بصورة جافّة ، معزولةٍ عن روحها وآدابها . ويتحمّل المعلّمون في ذلك أيضاً عبئاً كبيراً ، ومسئوليّة جسيمة ..

وجانب آخر يعود في بعض البلاد الإسلاميّة إلى الخلل في أهداف المناهج التعليميّة نفسها ، وما تحمل من توجّهات بعيدة عن دين الأمّة وقيمها وآدابها ، والخلل كذلك في البيئة الاجتماعية التي تحيط بالطالب وتؤثر فيه ، ثمّ الأعراف السائدة ، التي تفرض نفسها بقوّة على الطالب وعلى المجتمع ، وكثيراً ما تخرج عن القيم والآداب التي يُلقّنها في المدارس ويتعلّمها .. فرأيت ضرورة الكتابة في الجانبين الأوّلين اللذين أشبعهما علماؤنا الأجلاء عليهم رحمة الله ـ بحثاً وتفصيلاً ـ بالصورة التي تلائم عصورهم وأجيالهم ..

فكانت هذه الرسالة في فصلين :
ـ الفصل الأول : في رسالة المعلّم : وفيه عدّة مباحث نتحدّث عنها .
ـ والفصل الثاني : في آداب العالم والمتعلّم .

وقد قدّمت بين يدي ذلك بقبسين من الوحي الإلهيّ الشريف : قبسٍ من القرآن الكريم ، وقبسٍ من هدي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه .
وختمت هذه الرسالة بنداء ورسالة إلى كلّ معلّم ومعلّمة .
والله تبارك وتعالى أسأل : أن يجعل هذه الرسالة خالصة لوجهه الكريم ، ويجعل فيها النفع والخير  للمعلّمين والمتعلّمين وعامّة المسلمين ، وأن يكون فيها ذكرى وبلاغ ، ويكتب لي فيها الأجر والمثوبة ، إنّه أكرم مسئول ، وهو المرجّى للقبول ، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين .
جدة في 8 من ذي الحجة 1413هـ
وكتبه / د. عبدالمجيد البيانوني

أقباسٌ مِن هَدْيِ القُرآنِ الكَريِمِ
في العِلمِ والتعليمِ

لا علمَ لنا إلاّ ما علّمنا اللهُ تعالى .
العلماء هُم أهل الخشية لله تعالى .
المؤمِنُ يطلُبُ زيادةَ العلمِ دائماً .
العلم خصوصية من الله ورفعة .
العلمُ عملٌ وخشيةٌ ، ولا يَستوي أهلُ العلمِ وغيرُهم .
العلمُ رِفعةٌ ودرجاتٌ .
العلمُ أساسُ الدينِ .
مُهمّةُ الرسُولِ التربيةُ والتعليمُ .
تعليمُ الله تعالى لنبيّه مَا لم يعلَمْ .
طَلبُ العِلمِ فَرضُ كِفايةٍ .
القولُ على اللهِ تعالى بغيرِ علمٍ مِن كبَائِرِ الذُّنُوبِ .
أهلُ العِلمِ هُم مَرجِعُ الأمّة .




قَبسٌ مِن هَديِ المصطَفَى (ص)

التربية الايمانية قبل التعليم وهي أساسه :
ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ e يَوْمًا فَقَالَ : ( يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : ( احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ) .
* رواه الترمذي /2440/  وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وانظر الحديث التاسع عشر من جامع العلوم والحكم صفحة /160/ .

     وفي رواية غير الترمذي : ( احفظ الله تجده أمامك . تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة . واعلم أنّ ما أخطأكَ لم يكن ليصيبكَ ، وما أصابكَ لم يكن ليخطئكَ ، واعلم أنّ النصرَ مع الصبر ، وأنّ الفرجَ مع الكرب ، وأنّ مع العسر يسراً ) .

     مثلُ ما بُعِث به النبيُّ e من الهُدى والعِلمِ : عَنْ أَبِي مُوسَى الاشعري t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : ( إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ ، قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا ، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى ، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ، لا تُمْسِكُ مَاءً ، ولا تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ) .
* رواه البخاري 1/160-161 ومسلم 2282 وأحمد 4/399 .



المُعلّم والمُربّي الأوّل سيّدنا محمّد e

     إنّ من أبرز خصائص رسول الله e أنّه نبيّ أمّيّ بعث في أمّة أمّيّة ، ولكنّ هذا الأمّيّ الذي لم يقرأ كتاباً ، ولم يتعلّم على يد أحد من البشر جاء بعلوم شتّى ، شملت جميع جوانب الحياة ، سبق بها العصر الذي كان فيه بقرون عديدة ، وحارت بها ألباب العلماء ، والفلاسفة والحكماء ، ممّا وضع الناس جميعاً أمام بيّنة عقليّة واضحة ، وحُجّة ملموسة : أنّ العلوم التي جاء بها هذا النبيُّ الأمّيُّ : إن هي إلاّ وحي من الله تعالى ، وفتح وعطاء من مالك الملك ، عالم الغيب والشهادة ..

     ولقد أراد الله تعالى لأمّة الرسالة الخاتمة : أن تكون أمّة علم وتعليم ، يبدأ تعليمها من نور الوحي ، ويتّصل بالله تعالى ، وتحمل رسالة الإنقاذ للإنسانيّة كلّها ..

     وإنّ البدء بالتعليم هو المنطلق الأوّل ، الذي لا يستقيم أيّ جانب من جوانب الحياة الإنسانيّة إلاّ به ، ولا ينحطّ الإنسان ، ولا تنحطّ أمّة من الأمم ، ولا تضلّ الإنسانيّة وتتخبّط إلاّ من التفريط في العلم الصحيح أو الانحراف عن سبيله : إمّا إلى جهل وتخلّف ، أو إلى علم منقطع عن غايته المثلى وأهدافه ، يضرّ الإنسان ولا ينفعه .

     فالأمّة بلا علم متّصل بنور الحقّ ، يوضّح لها جوانب سلوكها ، وبلا تربية يعرف كلّ فرد من أفرادها واجبه ومسئوليّاته : الدنيويّة والأخرويّة ، تصبح أمة فوضويّة تائهة ، تصرفاتها غير متوقعة ولا منضبطة ، ولكلّ فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر ، وعادات وتصورات تختلف عن عاداته وتصوراته .


     فكيف تفلح أمة ، أو تستقيم حياتها إذا كانت على هذه الصورة ، أو كان أيّ فرد من أفرادها كذلك .؟
    
     وإنّ الظاهرة المتميّزة التي نجدها في حياة سيّدنا محمد e : أنّه عليه الصلاة والسلام بدأ بتشكيل أمّة جديدة ، كانت لها كلّ مقوماتها الفكريّة والسلوكيّة والأخلاقيّة والتشريعيّة والدستوريّة واللسانيّة ، فكان الفرد فيها ينبتُّ عن صلته بأيّ عالم غير عالم هذه الأمّة  ، بعدما ينصهر انصهاراً تاماً في بوتقة الإسلام ، وتتّضح له غايته ومصيره ، ثمّ ينطلق في اتجاه واضح بيّن ، لا يزيغ عنه ولا يحيد .

     لقد وضّح النبيّ e لكلّ فرد مهمّته ، وربّاه على أدائها ، ووضّح للجميع المهمّة الكبرى لهم في حياتهم ، ورسم لهم الطريق لبلوغها ، وعرّفهم بكلّ شيء في كلّ جانب من جوانب الحياة ، كيلا تلتبس عليهم السبل ، ولا تزلّ بهم قدم ، وقادهم في هذا الطريق بنفسه ورعايته مدّة ، ثمّ تركهم على المحجّة البيضاء ومضى إلى ربّه ، فانطلقوا بعده لم يغيّروا ، ولم يبدّلوا ، فكان من آثارهم ما كان ، مما لا يخفى على كلّ عاقل منصف ..

     وإنّ أعظم آليّة جاء بها النبيّ e لنشر العلم بين فئات الأمّة على اختلاف مستوياتها : هي تحويل التعليم إلى مسئوليّة دينيّة اجتماعيّة ، تُطالب بها كلّ فئة متعلّمة ، مهما تكن درجة تعليمها ، تجاه من يجاورها أوْ تختلط به ، وقد جاء ذلك في حديث واضح كلّ الوضوح ، يقرّر هذه الحقيقة ويؤكّدها : عَنْ عبْد الرحمنِ بنِ أبْزى t قال :

     " خطب رسول الله e ذات يوم ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم ذكر طوائف من الناس ، وأثنى عليهم خيراً ، ثم قال : ( ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانهم ؟! ولا يُعلِّمونهم ؟! ولا يُفطّنُونهم ؟! ولا يأمُرونهم ؟! ولا ينهونهم ؟! وما بالُ أقوامٍ لا يتعلَّمُون من جيرانهم ؟! ولا يتفقَّهُون ؟! ولا يتفطَّنون ؟! .

     والله ليُعَلِّمَنَّ قومٌ جيرانهم ، ويفقهونهم ، ويُفطنونهم ، ويأمرونهم ، وينهونهم ، وليتعلمن قومٌ من جيرانهم ، ويتفقهون ، ويتفطنون ، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا .

     ثم نزل فدخل بيته ، فقال قومٌ : من ترونه عنى بهؤلاء ؟ قالوا : نراه عنى الأشعريِّين ، هم قومٌ فقهاء ، ولهم جيرانٌ جُفاةٌ من أهل المياه والأعراب .

     فبلغ ذلك الأشعريَّين ، فأتوا رسول الله e فقالوا : يارسول الله ، ذكرت قوماً بخيرٍ ، وذكرتنا بشرٍّ ، فما بالُنا ؟

     فقال : ليُفقهُنَّ قومٌ جيرانهم ، وليفطّنُنَّهم ، وليأمرونَّهم ، ولينهوُنَّهم ، وليتعلّمَنَّ قومٌ من جيرانهم ، ويتفطنون ويتفقهون ، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدُّنيا .

     فقالوا : يارسول الله أنُفطّن غيرنا ؟ فأعاد قوله عليهم فأعادوا قولهم : أنُفطّن غيرنا ؟ فقال ذلك أيضاً .

     فقالوا : أمهلنا سنةً ، فأمهلهم سنة ليفقهوهم ، ويعلمونهم ، ويفطنونهم ... .

     ولا يزال الهدي الذي جاء به محمّد بن عبد الله e وتربيته المثلى تأخذ بيد المسلم كلّما تعثّر أو كبا ، لتنقذه في متاهات الحياة ، واتّجاهاتها المتضاربة ..

     وإذا كان كمال المربّي ونجاحه في عمله يتجلّى في ثلاثة جوانب ، كلّ واحد منها على درجة كبيرة من الأهمّيّة ، وهي :

     1 ـ نقل نفس الإنسان وعقله من حالة دنيا إلى حالة أعلى ، وكلما ترقّى بالإنسان وسما به أكثر دلّ ذلك على كماله ورفعة عمله .

     2 ـ ويتجلّى أيضاً نجاح المربّي في سعة دائرة الناس الذين استطاع أن ينقلهم إلى الكمال الإنسانيّ ، فكلّما كانت الدائرة أوسع وأشمل كان ذلك أدلّ على كمال المربّي ونجاحه في عمله .

     3 ـ كما يتجلّى نجاح المربّي في عمله : في صلاح هذا المنهج وهذه التربية ، وحاجة الناس جميعاً إليها ، واستمرار إيتاء هذه التعاليم آثارها على مدى العصور .

     وكلّ ذلك مما تحقّق في حياة النبيّ e على أكمل وجه وأتمّه ، وامتازت به التربية النبويّة التي جاء بها ، وشهد به القريب والبعيد ، واعترف به العدوّ قبل الصديق .. وممّا جاء من شهادات غير المسلمين :

     قال موير : " لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمّد ، ولا نعلم نجاحاً أو إصلاحاً تمّ كالذي تركه بعد وفاته " .

     وقالت دائرة المعارف البريطانية : " لقد صادف محمّد النجاح الذي لم ينل مثله نبيّ ، ولا مصلح دينيّ في زمن من الأزمنة " .

     ويقول بوزورث اسمث : " إن محمّداً بلا نزاع هو أعظم المصلحين على الإطلاق " .

     ويقول هيل : " إن جميع الدعوات الدينيّة قد تركت أثراً في تاريخ البشريّة ، وكلّ رجال الدعوة والأنبياء قد أثّروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكنّا لا نعرف في تاريخ البشر أنّ ديناً انتشر بهذه السرعة ، وغيّر العالم بأثره المباشر كما فعل الإسلام . ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيّداً مالكاً لزمانه ولقومه كما كان محمّد " .

     " لقد أخرج أمّة إلى الوجود ، ومكّن لعبادة الله في الأرض ، وفتحها برسالة الطهر والفضيلة ، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعيّة بين المؤمنين ، وأصّل النظام والتناسق ، والطاعة والعزّة في أقوام لا تعرف غير الفوضى " .

     فهل لمسلم بعد ذلك أن يقول عن أحد : إنّه المعلّم والمربّي الأوّل إلاّ عن سيّدنا محمّد e .؟!


الفصل الأوّل
رسـالةُ المُعلّم

تمهيد
     مع كثرة العلم والمعارف في عصرنا ، واتساع دائرة المعلومات ، والكمّ الهائل من الاكتشافات العلمية ، وثورة التقنيّة والمخترعات ، ومع تطوّر الوسائل التعليميّة ، وتنوّع أساليب التعليم وطرقه ، ودعوى أن عصرنا عصر العلم ، وكأنّ أسلافنا كانوا في عصور الجهل والأميّة ، وكأنّ الحضارة الاسلاميّة ، لم تكن حضارة علميّة راسخة الأسـس ، وطيدة البنيان ضربت في كل العلوم بحظّ وافرٍ .. مع هذا الواقع وتلك الدعوى : فإننا نحسّ ونلمس ، ونحن نمارس التعليم ، ويتقلّب أبناؤنا في مراحله ومستوياته المختلفة ، وتبذل لهم كلّ الإمكانات الهائلة ، وتجنّد لهم حشود من الطاقات العاملة .. مع كلّ هذا فإننا نحسّ أنّ التعليم يفقد بريقه يوماً بعد يوم .. وأنّ العلم المبذول جسد من غير روح ، وصورة بلا معنى وأن المتعلّم فاقدٌ لبركة العلم ونوره وروحانيّته وسموّه .

     وتلك لاشكّ  مسئولية المعلمين أولاً ، الذين تحوّل عملهم في كثير من الأحيان إلى عمل وظيفيّ  آليّ ، وغلبت على كثير منهم الملالة والسأم ، وأداء العمل بصورة شكليّة رتيبة ، وغابت عن كثير منهم الأهداف التربويّة ، فلم يتوخّوا تحقيقها في عملهم ، وكانت النتيجة انحطاط التعليم ، وضياع المتعلّمين ..

     فمن ثمّ كان لابدّ لنا من العودة الصادقة الواعية إلى المنهج الذي قامت عليه نهضة هذه الأمّة وحضارتها ، وهو المنهج الذي بعث به النبيّ e ، وأسّس عليه بنيان دولة الإسلام الأولى ، فكانت مدرسة تخرّجت فيها خير أمّة عرفتها البشريّة ، وكان منها أزكى الناس ، وخير أجيال الدنيا على الإطلاق ..

     وهذه الرسالة إن هي إلاّ محاولة لرسم الصورة الصحيحة لهذا المنهج ، الذي يقوم على التعليم بما وضع له الإسلام من الحدود والقيم ، والآداب والضوابط ، ممّا أثمر تلك الحضارة الإنسانيّة المتميّزة ..

     والحديث عن رسالة المعلّم يتصل بالحديث عن الرسالة والرسول ، تلك الرسالة التي هي رسالة العلم والإيمان .

     والعلمُ هو سبيل الخشية ، والقرب من الله عز وجل .

     والرسول e هو الذي علّمه الله تعالى ما لم يعلم ، وبعثه الله معلّماً للإنسانيّة ورحمة للعالمين . 

     وإنّ مهمّة المعلّم تقتضي التمييز بين المعلّم وبين الموظّف الذي يقوم بعمل مكتبيّ ، بالرسالة التي يؤمن بها المعلّم ، ويحملها بين جوانحه ، وتتفاعل معها مشاعره ، وينقلها إلى طلابه وتلامذته ، هذا التمييز يعدّ على جانب كبير من الأهميّة ، أن تسلط عليه الاضواء ، ويركّز عليه الانتباه ، ويعالج بكثير من الاهتمام ، لما أنه يتناول روح العلم والتربية ، التي يتلقّاها الطالب ، وتتكوّن بها شخصيّته بجوانبها المختلفة ، خلال سنوات دراسته وتحصيله ، وعندما يفقد المعلّم رسالته يتحوّل إلى موظّف ، ويكون العلم ضعيف الأثر ، عقيم الثمر في حياة الأمّة ، وسلوك أبنائها .

     هذا وقد رأيت أن أتحدث عن رسالة المعلم التي تميّزه عن مهنة الموظّف من خلال المباحث التالية :

ـ المبحث الأوّل : نحن أمة رسالة .
ـ المبحث الثاني : الفرق بين المعلّم والموظّف .
ـ المبحث الثالث :علاقة الناس بالمعلّم والموظّف .
ـ المبحث الرابع : المعلّم في مفهوم الاسلام .
ـ المبحث الخامس : صفات المعلّم التربويّة المؤهّلة .
ـ المبحث السادس : أسباب أخرى تحول المعلّم إلى موظّف .



المبحث الأوّل
نحن أمّة رسالة

     لقد أختار الله تبارك وتعالى محمداً e خاتماً للأنبياء والرسل ، وجعل شريعته خاتمة الشرائع والرسالات ، وأمّته خاتمة الأمم ، وشهيدة على الناس .

     وهذا القول مِن بدائه الحقائق التي تميّز أمّة الإسلام في وجودها الذاتيّ ورسالتها الحضاريّة بين الأمم ، كما تميز المسلم في تكوينه وسلوكه ، وأخلاقه وعلاقاته .

     إنّها حقيقة بدهيّة تترتّب عليها عدة حقائق أوليّة أساسيّة أهمّها :

     1 ـ أنّ على كل مسلم أن يحمل في عقله وقلبه ، وسلوكه وأخلاقه : رسالة الإسلام وقيمه ومبادئه ، ويبلغ ذلك للناس بقوله وفعله ، ويدعو إليه بحسب استطاعته .

2 ـ وأنّ التعامل بين المسلمين ينبغي أن تحكمه مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه .

3 ـ وأنّ علاقة المسلمين بغيرهم ينبغي أن تحكمها أيضاً مبادئ الإسلام وقيمه .

     ويمثّل هذه البدهيّات كلّها قول الخليفة الراشد : عمر بن الخطاب t : ( نحنُ قومٌ أعزّنا الله بالاسلام مهما أبتغينا العزّةَ بغيره أذلّنا الله ) .

     ويترتّب على هذه الحقائق أنّ على الأمّة المسلمة أن تترسّم خطا المنهج الذي جاء به النبيّ e في تصوّراتها وخططها ، وعلاقاتها وجميع شئونها ، إذا أرادت أن تكون وفيّةً للدين والمنهج الذي أعزّها الله به .

     ولكنّ الذين يُسألون عن حمل رسالة الإسلام وتبليغها بالدرجة الأولى ، وعلى الوجه الأكمل إنّما هم العلماء ، الذين هم ورثة الأنبياء ، كما جاء في الحديث الصحيح ، وإنّ علماء الأمة في كلّ جيل مهمّتهم ورسالتهم الأولى أن يُربّوا الناس بالإسلام ، وأن يربطوا بين هذه الأمّة في أجيالها المتلاحقة ، وفي حياتها النظريّة والعمليّة وبين الإسلام عقيدة ومنهجاً ، وأخلاقاً وسلوكاً ، وعبودية خالصة لله ربّ العالمين .

     وحمل رسالة الإسلام وتبليغها إنّما يعني : أنّ هذه الأمّة لها في الحياة هدف وغاية ، وأنّ التربية ينبغي أن تستهدف تحقيق هدفها وغايتها .

فما غاية التربية ؟ وماذا يراد من ورائها ؟ ولماذا تبذل هذه الإمكانات الهائلة ، والقدرات المتنوّعة ، والمواهب الفنية على التعليم .؟ ولماذا تنفق الأمّة بسخاء في هذا السبيل ، وعلى طريقة مقصودة منظمة ؟

     إنّ التربية والتعليم إذا سارت على غير هدف أو غاية واضحة أوجدت فجوة بين الأمّة وبين عقيدتها وتصوراتها ، وحضارتها وتراثها ، فمن ثمّ فإنّ وظيفة التعليم الأولى أن يربط بين الأمّة وبين هذه الأمور برباط محكم وثيق ، وينقل تراث الآباء والأجداد إلى الأجيال القادمة ، ذلك التراث الذي أفرغ فيه سلفنا الصالح خير قواهم ومواهبهم ، وبذلوا فيه أعمارهم ، ونقل إلينا بأيدي الأمناء ، وعلى جسور من الأشلاء والتضحيات ..

     ثمّ لا ينبغي أن تقتصر مسئوليّة التعليم على النقل والتبليغ فحسب ، بل ينبغي أن يعمّق هدف التعليم وغايته في القلوب والعقول ، ويمزج بالأحاسيس والمشاعر ، ليتمّ نقله إلى الأجيال اللاحقة بدقّة وأمانة ، وأقصى درجة من الصدق والفاعليّة .

     وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية في تعريف التربية ما يلي : " لقد سلك الناس مسالك مختلفة في التعريف بالتربية ، ولكن الفكرة الأساسيّة التي تسيطر عليها جميعاً : " أنّ التربية : هي الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربّوه لإنشاء الأجيال القادمة ، على أساس نظريّة الحياة التي يؤمنون بها " .

     " وإنّ وظيفة المدرسة أن تمنح للقوى الروحيّة فرصة التأثير في التلميذ .. تلك القوى الروحيّة ، التي تتصل بنظرية الحياة ، وتربّي التلميذ تربية تمكّن من الاحتفاظ بحياة الشعب وتمديدها إلى الأمام " .


المبحث الثاني
الفرق بين المعلّم والموظّف

     يجمع بين المعلّم والموظّف أن كلاًّ منهما مسلم * يحمل في عقله وقلبه ، وسلوكه وأخلاقه رسالة الإسلام ، ويدعو إليها بحسب استطاعته ، وهذا ما تبين لنا في النقاط السابقة .
* الأصل في الدولة الإسلاميّة ألاّ يكون موظّفوها الإداريّون إلاّ من المسلمين ، إذ إن الموظّف وكيل عن وليّ الأمر ونائب عنه في تنفيذ شريعة الله ، وإقامة العدل بين الرعيّة ، وإيصال الحقوق ، وحفظها ، والقيام على مصالح الأمّة ، فأهل الذمّة من اليهود والنصارى لا يستعان بهم في أعمال إداريّة فيها نوع من الولاية على حقوق الأمّة ومصالحها وأفرادها ، وهي نوع من النيابة عن وليّ الأمر ، وقد قال الله تعالى : ( )   النساء ، وقد ذهب الماورديّ إلى جواز أن يكون وزير التنفيذ ذمّيّاً ، وتبعه بعض المعاصرين ، وانتقده أبو يعلى وإمام الحرمين في " غياث الأمم " ، وابن جماعة إذ يقول : " ولا يجوز تولية الذمّيّ في شيء من ولايات المسلمين إلاّ في جباية الجزية من أهل الذمّة أو جباية ما يؤخذ من تجارات المشركين " ، وإنّ وقائع التاريخ الإسلاميّ وما فيها من خيانات كثير من أهل الذمّة للمسلمين ، تؤيّد القول الأول ، وتقتضي الأخذ بالحيطة في هذا الأمر والحذر ، ينظر : " تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام " للإمام بدر الدين بن جماعة ص/78/ وتعليق الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق