الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

رسالة المعلم وآداب العالم والمتعلم - 3




الفصل الثاني
آداب العالم والمتعلّم

إنّ أهمّ ما يميّز الحضارة الإسلاميّة في كلّ جانب من جوانبها ، وفي ثقافتها وعلومها على وجه الخصوص : أنّها حضارة القيم الإنسانيّة الرفيعة ، يزيّن كلّ شيء فيها فضائلُ ساميةٌ ، وآدابٌ دقيقةٌ ، تُضفي عليها ثوب الجمال والكمال ، وحلية الحسن والبهاء ، وتجعل الحياة في رحابها تشعّ بالخير والعطاء ، وتبلغ أعلى ما يتصوّر لها من رفعة ومجد ، وتحقّق أَقصى ما تطمح إلَيه النفس البشرِيّة من السعادة للفرد والجماعة ..

ذلك لأنّها ربانيّة المصدر ، واقعيّة الاتّجاهات ، تستمدّ قيمهَا ومفاهيمها من كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه e ، فثقافة حضارتنا التي تبنى على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ، تهتمّ بغايات الأشياء ، وأصولها الراسخة ، وهي تجمع بين الغايات والوسائل ، وبين العلم والإيمان ، وَبين الحقّ وَالخير ، وبين الكمَال والجمال ولا تجعل الدين بديلاً عن العلم والحضارة ، ولا عدوّاً لهما ، وإنما هو الإطار والمحور ، والغاية والمنهج ، الذي تحكَمُ شُئون الحياة كلّها من خلاله .. بينما تقوم الثقافة الماديّة على الأسباب المادّيّة والمظاهر ، وتقتصر مقاصدها على الوصول إلى المنفعة الخاصّة ، ولو كان ذلك بتعطيل مصالح الجماعة وإهدارها.

ومن ثمّ فقد كان الأدب في الإسلام شعارَ المسلم ودثاره ، وتاجَه وفخاره ، في كلّ شأن من شئون حياته.

وإنّ من الخداع والتلبيس ، أو من الجهل وسطحيّة الفهم : أن نضع المنهج الإلهيّ في كفة ، والإبداع الإنسانيّ في عالم المادّة والحياة في كِفّة أخرى .. ثمّ نطلب من الإنسان أن بوازن بينهما ويختار .. فيظن أنّه أمام معادلة مُسلّم بها .. فيقع في شرَك أعداء الله ، وأعداء الإنسانيّة على حدّ سواء ..

إنّ شقاء الإنسانيّة اليوم في انفصال العلم عن الإيمان ، وانفصال المؤسسات التعليميّة والفكريّة عن الأخلاق والقيم ، والغايات الصالحة السامية .. وما لم نتدارك ذلك في تعليمنا وتربيتنا ، ونعود إلى أصالتنا الثقافيّة المتميّزة ، فإنّنا مهدّدون بالذوبان في أحماض هذه المدنيّة الزائفة ، وتمزّقاتها المشوّهة ..

لقد أبدعت هذه المدنيّة " آلات " ، ولكنّها لم تستطع السيطرة عليها ، لأنّ حضارتها لم تقم على القيم الحقّة ، وإنما قيمها ماديّة نفعيّة بحتة .. فصارت الحياة أرقاماً وآلات ، وملوّثات وغازات ... وأصبحت السعادة مقيسة بعدد ما لديها من وحدات حراريّة ، وإمكانات مادّيّة ، وصار العصر عَصْرَ كَمٍّ يخضع الضمير فيه للتنافس الكميّ ، كما صار عصر النسبيّة الأخلاقيّة ، فلم يعد أحد يدرك معنى الفضيلة المطلقة ، أو مفهوم العدالة الحقّة .. وانحطّت الحياة الاقتصاديّة عندما احتكم الناس إلى المنطق القائل : " الحقّ لمن غلب " ، وعندما أصبحت فلسفة التجارة : أنّها السرقة الحلال ..

أمّا ثقافتنا الإسلامية ، فهي ربّانيّة المصدر والهدف ، إنسانيّة النزعة والمبدأ ، عالميّة الأفق والرسالة ، روحها الآداب التي تحكمها ، وتجمّل حدودها وحقائقها ، وتزن بوادرها وشواردها ..

ـ حكى الأصمعي رحمه الله تعالى : أنّ أعرابياً قال لابنه : " يابني ! الأدب دعامة أيّد الله بها الألباب ، وحلية زيّن الله بها عواطل الأحساب ، فالعاقل لا يستغني وإن صحّت غريزته عن الأدب المخرج زهرته ، كما لا تستغني الأرض وإن عذبت تربتها عن الماء المخرِج ثمرتَها " .

فما خلقَ الله مثلَ العُقول          ولا اكتسبَ الناسُ مِثلَ الأدب

وقال الإمام الماورديّ رحمه الله تعالى في كتابه : " أدب الدنيا والدين " :

" اعلم أنّ النفسَ مجبولةٌ على شِيمٍ مُهملة ، وأخلاق مُرسلة ، لا يستغني محبوبها عن التأديب ، ولا يُكتفى بالمرضيّ منها عن التهذيب ، لأنّ لمحمودها أضراراً مقابلة ، يسعدها هوى مطاع ، وشهوة غالبة ، فإن أغفل تأديبها تفويضاً إلى العقل ، أو توكّلاً على أن تنقاد إلى الأحسن بالطبع ، أعدم التفويض درك المجتهدين ، وأعقب التوكّل ندم الخائبين ، فصار من الأدب عاطلاً ، وفي صورة الجهل داخلاً ، لأنّ الأدب مكتسب بالتجربة ، أو مستحسن بالعادة ، ولكلّ قوم مواضعة ، وكلّ ذلك لا ينال بتوقيف العقل ، ولا بالانقياد للطبع ، حتّى يكتسب بالتجربة والمعاناة ، ويستفادة بالدربة والمعاطاة ، ثمّ يكون العقل عليه قيّماً ، وزكيّ الطبع إليه مُسلّماً .. " .

ـ وبعد : فلقد أخذ سلفنا أبناءهم بالأدب في كل شأن من شئون الحياة : في العلاقة مع الله تعالى ، وفي تهذيب النفوس وتزكيتها ، وفي العلاقة مع الناس ، بدءاً بالوالديْن والقرابة ، وكلّ ذي رحمٍ ، إلى الجيران والأصحَاب ، وانتهاءً بالعلاقة مع الناس كلّ الناس ، ولو كانوا  أعداءً محاربين فقانون الحرب معهم له آدابه التي تحكمه وتلجمه ..

فمن ثمّ فقد كانت مجتمعات سلف هذه الأمّة متماسكة البنيان ، وطيدة الأركان ، تقوم العلاقة بين أفرادها على أوثق العرا ، وأزكى الروابط ، وكانت صورة مجتمعاتهم وطبيعة علاقاتهم دعوةً إلى الإسلام حيّة مؤثّرة في أبناء كلّ الملل ، وأهل الأديان ، الذين اختلطوا بهم ، أو تعَاملوا معهم ..

ولا بدّ لنا من إحياء هذه الروح في تربيتنا وتعليمنا ، لتزدهر مجتمعاتنا ، وتترسخ دعائم نهضتنا ، ولا يخفى أنّ متعلّمي اليوم ، هم معلّمو الغد ، وأنّ مستقبل مجتمعاتنا إنّما تصنعه النخبة المعلّمة في يومنا ..

ـ هذا وقد رأيت أن أتحدّث عن هذا المبحث في ثلاثة مباحث :
     ـ المبحث  الأول : آداب المُعلّم وأخلاقه .
     ـ المبحث الثاني : أهمّ آداب المُتعلّم .
     ـ المبحث الثالث : آداب المُناقشات العلميّة .


المبحث  الأول
آداب المُعلّم وأخلاقه

1 ـ أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى ، ولا يريد ممن علّمه جزاءً ولا شكوراً ، بل يشعر بمنّة الله عليه أن سخّره لخدمة العلم وأهله وطلابه ... .

ـ وأن يطلب ثواب الله تعالى بما يقوم به من جهد ، وما يقدّمه من إرشاد وتوجيه ، فثواب الأعمال ، وبركتها على عامليها إنما يكون على قدر حسن النيّة وصحة المقصد ، ففي الحديث الشريف : ( إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ ، وإنما لِكلّ امرئٍ ما نوَى .. ) * .
* جزء من حديث مشهور رواه جمع من الحفّاظ منهم البخاري 1/7 و15 ومسلم /1907/ .

والإخلاص في التعليم شعار السادة المرسلين عليهم الصلاة والسلام ، وينبغي أن يكون كذلك شعار العلماء والمعلّمين ، الذين هم ورثة الأنبياء وحملة علومهم ..

2 ـ الشفقة على المُتعلّمين والرفق بهم ، وتقدير استعداداتهم وتحمّلهم ، كشفقة الآباء على الأبناء : ففي الحديث الشريف : ( تعلّمُوا العِلمَ ، وتعلّمُوا للعلمِ السكينةَ والوقارِ ، وتواضعُوا لمن تَتعلّمُون منهُ ) .

ـ ومن الشفقة على المتعلّم والرفق به : تيسير العلم عليه ، بحسن أدائه وجودة إلقائه ، فقد كان النبيّ e إذا تكلّم كلمة أعادها ثلاثاً حتّى تفهم عنه ..

ـ ومن الشفقة : بذل المجهود في التوجيه والنصح والمعونة ، فإنّ ذلك أعظم للأجر ، وأسنى للذكر ، وأنشر للعلم ..

ـ ومن الشفقة على المتعلّم : ألاّ يكثر عليه في المجلس الواحد .. فقد كان عبد الله بن مسعود t يذكّر الناس كلّ خميسٍ ، فقال له رجل : " يا أبا عبد الرحمن ! لوددتُ أنّك ذكّرتنا كلّ يوم .!

" قال : أما إنّه يمنعني من ذلك أنّي أكره أن أملّكم ، وإنّي أتخولّكم بالموعظة ـ أي أتعهّدكم بها وقتاً بعد وقت ـ

كما كان النبيّ e يتخوّلنا بها مخافة السآمة علينا .." * .
* رواه أحمد 1/427/ .

ـ ومن الشفقة على المتعلّم والرفق به : الالتزام بمنهج الشرع في التأديب والتهذيب ، وعدم تجاوز ذلك انسياقاً وراء العادات والأعراف ، أو استجابة لردود الفعل على مواقف الناشئ ، وما قد يصدر عنه من طيش أو قصور .. إذ إنّ ضرر ذلك على الناشئ لا يوصف ولا يقدّر ، وربّما كان ذلك سبب تركه لسبيل العلم ممّا يُغيّر منحى حياته ، ويغلق المستقبل المزدهر في وجهه ، ثمّ لا يزال يذكر أستاذه الذي كان سبب ذلك بالسوء والشعور بالظلم ..

يقول الإمام ابن خلدون رحمه الله : " من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر ، وضيّق عن النفس في انبساطها ، ودعاه إلى الكسل ، وحمله على الكذب والخبث ، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه " .

وقد روي عن عمر بن الخطّاب t أنّه قال : " من لم يؤدّبه الشرع لا أدّبه الله " ، والمقصود بهذه الكلمة الالتزام بما حدّه الشرع من نوع التأديب وقدره ، " حرصاً على صون النفوس من مذلّة التأديب الخارج عن الحدّ الشرعيّ ، لأن المقدار الذي عيّنه الشرع لذلك أملك له ، لأنّه أعلم بمصلحته "  .

ويقول الإمام ابن خلدون أيضاً : " ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدّم به الرشيد لمعلّم ولده الأمين ، فقال : يا أحمر ! إنّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه ، فصيّر يدك مبسوطة ، وطاعته لك واجبة ، وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين ، أقرئه القرآن ، وعرّفه الأخبار ، وروّه الأشعار ، وعلّمه السنن ، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه ، وامنعه من الضحك إلاّ في أوقاته ، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ، ورفع مجالس القوّاد إذا حضروا مجلسه ، ولا تمرّنّ بك ساعة إلاّ وأنت مغتنم فائدة تفيده إيّاها ، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة ، فإن أباهما فعليك بالشدّة والغلظة " * .
* مقدّمة ابن خلدون " ص/541/ .

3 ـ ومن آداب المعلّم وأخلاقه : التواضع ولين الجانب ، وترك العجب بالنفس والعلم ، وأن يعرف أقدار من سبقه من أهل العلم ومن فوقه ، وأن يردّ علمه إلى فضل ربه وتوفيقه ... والعلم من أعظم نعم الله وأجلّها ..

وقد جاء في الأثر : " ولا تكونُوا مِن جبابرةِ العلماءِ ، فلا يقومُ علمُكم بجهلِكم " .

4 ـ ومن آداب المعلم وأخلاقه : أن يترك العجب بما يحسن ، والتكلّف لما لا يحسن ، فإذا سئل عمّا لا يدري ، يقول : لا أدري ، ولا يتكلّم بما لا يعلم ، فتلك مسئوليّة يحاسب عليها .

ومن دعاء الجاحظ : " اللهمّ إنّا نعوذُ بكَ مِن فتنةِ القولِ ، كما نعوذُ بكَ مِن فتنةِ العملِ ، ونعوذُ بك مِن التكلّفِ لما لا نحسِنُ ، كما نعوذُ بكَ مِن العُجبِ بما نحسِنُ ، ونعوذُ بك مِن شرِّ السَّلاطةِ والهَذَر ، كما نعوذُ بكَ مِن شرّ العِيّ والحصَرِ .." . والسلاطةُ : حِدّةُ اللسانِ ، والهذَرُ : إكثار الكلام بغير فائدة .

ـ وقد كان من أهمّ آداب علمائنا أنّهم كانوا يعلّمون الطالب بسلوكهم وحالهم قول : " لا أدري " ، في كلّ ما كانوا يسألون عنه مما لا علم لهم به .. ولا يستحيون من ذلك ، ولا يبالون بما يقال عنهم ..

ـ وقد سُئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن مسائل كثيرة ، فقال في أكثرها : " لا أدري " ، فعندما ألحّ عليه السائل في طلب الجواب ، قال له : قل للناس : إنّ مالكاً قال : لا أدري .. " وهذا من حرصه رحمه الله على أمانة العلم ، وتقدِيره لعظيم حقه ..

5 ـ ومن آداب المعلّم وأخلاقه : أن يبذل العلم لطالبه ، ولا يبخل بتعليم ما يعلم ، ولا يمتنع من الإفادة به ، فإن كتم العلم الذي يحتاجه الناس لا يجوز ، ولو استنّ بذلك من علّمه لما وصل العلم إليه .

ـ وفي الحديث : ( مَن سُئلَ عن عِلمٍ فكتمَه أُلجمَ يومَ القيامةِ بلجامٍ مِن نارٍ ) * .
* رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبّان والحاكم ، وصحّحه من حديث أبي هريرة t ، وقال الترمذي : حديث حسن .

ـ وقال بعض العلماء : " إني لأفرح بإفادتي المتعلّم ، أكثر من فرحي باستفادتي من المعلّم " .

ـ وللمعلّم في بذل العلم ، وتعليمه لطالبه نفعان :
     ـ الأول : ما يرجوه من ثواب الله تعالى ، بتعليم الجاهل ، ونشر العلم ، وبذل الخير ..
     ـ الثاني : زيادة العلم ، وإتقان الحفظ ، فإنّ ترك المعلّم للتعليم ينسيه العلم .

قال الخليل بن أحمد رحمه الله : " اجعل تعليمك دراسة لعلمك ، واجعل مناظرة المتعلم تنبيهاً على ما ليس عندك " ..

ـ وإنما يعطى الطالب على قدر ما يتأهّل له في نظر معلّمه ، فربّ علم كان على متعلّمه فتنة .

ـ سأل تلميذ عالماً عن بعض العلوم ، فلم يفده ، فقيل له : لم منعته ؟ فقال : " لكلّ تربية غرس ، ولكلّ بناء أسّ " .

ـ وقال بعضهم : " لكلّ ثوب لابس ، ولكلّ علم قابس " .

ـ وقال بعض الأدباء : " ارثِ لروضة توسّطها خنزير ، وابكِ لعلمٍ حواه شرّير .. " .

6 ـ وينبغي أن يكون للمعلّم فراسة يتوسّم بها المتعلّم ، ليعرف مبلغ طاقته ، وقدر استحقاقه ، ليعطيه ما يتحملّه بذكائه دون ما لا يستطيع حمله ، أو القيام بحقّه ، لأن ذلك قد يثبط همّة المتعلّم ، ويفلّ عزمه ..

فالمعلّم لا يعدم أن يكون في طلابه الذكيّ الذي يحتاج إلى الزيادة ، والبليد الذي يكتفي بالقليل ، أو ينوء بحمله ..

ـ وقد سبق حديث عليّ t : " حدّثوا الناس بما يعرفون ، أتحبّون أن يُكذّبَ الله ورسوله .؟! " .

ـ وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما : " لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينه " .

ـ وقال ابن الروميّ في العالم المتفرّس :

ألمعيٌّ  يرى   بأوّلِ  رأيٍ     آخرَ الأمرِ مِن وراءِ المغيبِ
لوذعيٌّ  له   فؤادٌ  ذكيٌّ      ماله  في ذكائه من ضرِيبِ
لا يُرَوّي ولا يُقَلّبُ  كفّاً        وأكفّ  الرجالِ في  تقليبِ

7 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم وأخلاقه : أن يعمل بعلمه ، ويأتمر بما يأمر الناس به ، وإلاّ كذّب فعلُه قوله ، وقد ندّد الله تعالى بمن كان كذلك .

ـ وضرب الله مثلاً لمن لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به ، بالحمار في عجمته وبلادته { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار ... } الجمعة/5 .

ـ وفي الحديث الشريف : ( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ )*.
* رواه الترمذيّ /2341 / عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ ، وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، ورواه البزّار والطبرانيّ بإسناد صحيح .

ـ وفي الحديث أيضاً : ( يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ : يَا فُلانُ ! مَا لَكَ ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟! فَيَقُولُ : بَلَى ، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ولا آتِيهِ ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ) * .
* رواه البخاري 6/238 ومسلم /2984/ وأحمد 5/205 و206 و 207 و209 .

ـ وقديماً قال الشاعر عائباً على من يخالف القول منه الفعل :

وغيرُ تقيٍّ يأمُرُ الناسَ بالتقى      طَبِيبٌ  يُداوِي الناسَ وهو سَقيمُ
يا أيّها   الرجلُ  المعلّمُ  غيرَه      هلاّ لنفسِك كان ذا التعليمُ ..؟
ابدأ بنفسِك فانهَها عَن غيّها        فإذا  انتهَت  عنه  فأنتَ حَكيمُ
لا تَنهَ  عن خُلُقٍ  وتَأتيَ مِثلَه      عارٌ  عَليكَ  إذا   فَعلتَ  عَظيمُ

ـ وقال آخر :
لو كان في العلمِ مِن دُونِ التُّقى شَرَفٌ      لكان ذا الفضلِ بين الخلقِ إبليسُ

ـ وقال بعضهم :
عوّد  لِسانَك  قِلّةَ  اللفظِ                واحفَظ كلامَك أيّما حِفظِ
إيّاك أن تَعِظَ الرجالَ وقد               أصبحتَ مُحتاجاً إلى الوَعظِ

ـ ووعظ أحمدُ الغزالي أخاه الإمام أبا حامد رحمهما الله تعالى ، وهو يخشى عليه أن يشغله وعظ الناس عن وعظ نفسه ، وحملها على الخير ، وعظه بأبيات قال له فيها :
أخذتَ بأعضادِهم  إذ  وَنَوا           وخلّفكَ الجَهدُ  إذ  أسرَعُوا
وأصبحتَ تَهدِي ولا تَهتدِي            وتُسمِعُ وَعظاً ، ولا تَسمَعُ
فيا حَجَرَ  الشّحذِ حتّى متى           تَسُنُّ  الحدِيدَ ولا تَقطَعُ .؟

ـ وقال بعض السلف : " العلمُ يَهتفُ بالعملِ ، فإن أجابه ، وإلاّ ارتحل .. " .

فبركة العلم وثمرته : العمل به ، ولن يكون الانتفاع منه بغير ذلك .. .

ـ وقال عليّ t : " قصم ظهري رجلان : عالم مُتهتّكٌ ، وجَاهلٌ مُتنسّكٌ " .

8 ـ ومن حقّ العلم على العالم إعزازه ، وتنزيهه عن شُبَهِ المكاسب ، أو أن يتخذه سلّماً لمآرب الدنيا ، أو مطيّة لذوي الأهواء ، أو باباً لذلّ المطامع .. وما أحسن تعبير القاضي عليّ بن عبد العزيز الجرحاني * ، عن حقّ العلم على العالم ، ورفعة العلمِ في نفوس أهلِه ، إذ يقول في قصيدته العصماءِ اليتيمة ، التي يحقّ لنا أن نسمّيها : عُنوانَ المَجدِ للعالمِ المُجِدّ :
* ولد في جرجان سنة 290 وتوفّي سنة 366 هـ ، فقيه شاعر ناقد ، له كتاب : " بين المتنبّي وخصومه " .

يقُولونَ لي : " فيك انقباضٌ .. " وإنما       رأوا رجُلاً عن مَوقفِ الذلّ أحجما
أرى الناسَ من داناهُمو هانَ  عندهُم          ومَن  أكرمته   عِزّةُ   النفسِ   أُكرما
ولم  أقضِ حَقّ العلمِ إن  كان  كلّما          بدا    طَمعٌ    صيّرتُه   ليَ   سُلّما
وما زِلتُ   مُنحازاً  بعِرضيَ  جانباً        عنِ   الذلّ   أعتدُّ   الصيانةَ   مَغنما
إذا قيل : هذا مَنهلٌ قلتُ : قد أرى               ولكنّ   نَفسَ   الحرّ   تحتمِلُ   الظَّما
أنزّهها  عن  بعضِ  ما  لا   يشينُها       مخافةَ  أقوالِ  العِدا : فيمَ  أو لما .؟
فأُصبحُ  عَن  عيبِ  اللئيمِ مُسلّماً                 وقد  رُحتُ  في نفسِ الكريمِ مُعظّما
وإنّي  إذا ما فاتني الأمرُ لم أبِت          أقلّبُ     كفّي      إثرَه      مُتندّما
ولكنّه   إن   جاء   عفواً   قبلتُه          وإن  مالَ  لم   أُتبعه  :  هلاّ  وليتما
وما كلُّ  بَرقٍ   لاحَ   لي   يَستفزّني       ولا كلُّ  أهلِ  الأرضِ أرضاهُ مُنعما
وأَقبضُ  خَطوي  عن  أمورٍ  كثيرةٍ        إذا  لم  أَنلها  وافرَ   العِرض  مُكرما
وأُكرمُ نفسِي  أَن  أُضاحِكَ عابساً                  وأن    أتلقّى    بالمديحِ     مُذمَّما
وكم طالبٍ  رِقّي  بنُعماه  لم  يصِل               إليهِ   وإن   كانَ   الرئيسَ  المعظّما
وكم  نعمةٍ  كانت  على  الحرّ نقِمةً              وكم مَغنمٍ   يعتدّه   الحرّ  مَغرما
ولم  أبتذلْ في  خِدمةِ العلمِ مُهجَتي               لأَخدُمَ  مَن  لاقيتُ  لكِن  لأُخدَما
أأشقَى  به  غَرساً  وأجنيهِ  ذِلّةً            إذن  فاتّباعُ  الجهلِ قد كان  أحزما
وإنّي  لراضٍ  عن  فتىً  مُتعفّفٍ           يروُحُ  ويغدُو  ليسَ  يملكُ  دِرهما
يَبيتُ يُراعي النجمَ مِن سُوءِ حالهِ                  ويُصبحُ  طَلقاً   ضاحكاً  مُتبسّما
ولا يسألُ    المثرينَ   ما   بأكفّهم         ولو   ماتَ   جُوعاً  عِفّةً  وتكرّما
فإن قلتَ : زَندُ العلمِ كابٍ ، فإنما                 كبا حينَ  لم   نحرُس  حماهُ  وأظلما
ولو أنّ أهلَ العلمِ  صانُوهُ   صانَهُم ولو   عَظّموهُ   في  النفُوسِ   لعُظّما
ولكنْ   أذلّوهُ   فهانُوا    ودنّسُوا            مُحيّاهُ    بالأطماعِ   حتّى    تجهّما

ـ وقد علّق الأستاذ عليّ الطنطاوي رحمه الله على هذه القصيدة بقوله : " وياليت كلّ عالم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه ، وعلى صفحات قلبه ، ويجعلها دستوره في حياته ، وإمامه في خلائقه " * .
* تُوفّي الشيخ علي الطنطاوي ، وأنا أراجع هذه الرسالة ، عشيّة يوم الجمعة الرابع من شهر ربيع الأول من سنة 1420 للهجرة ، ودفن بعد عصر يوم السبت في مقبرة العدل بمكّة المكرّمة ، تغمّده الله تعالى برحمته ، وأسكنه فسيح جنّته ، وعوّض الأمّة خيراً عن فقده .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق