الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

رسالة المعلم وآداب العالم والمتعلم - 4




9 ـ وليعلم حامل العلم : أنّ في العلم لذّة هي عوض عن كل لذّة ، وغناء عن كلّ رغبة ، أو حظّ من الدنيا الزائلة .. متى كان صادق النيّة فيه ، صحيح الهمّة ، طموح العزيمة ، يبتغي الأجر من الله والمثوبة ..

10 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يزجر عن سوء الأخلاق بالتعريض ما أمكن ، بدون أن يعيّن إنساناً أو يوبّخه أمام إخوانه ، وكان النبيّ e إذا نهى عن أمر فعله بعض الناس يقول : " ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا وكذا .. " .

11 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم أيضاً : ألاّ يُعنّف متعلّماً ، ولا يحقّر ناشئاً ، ولا يستصغر مبتدئاً  ، فصغير اليوم كبير الغد ، وربّ كلمة أساءت لطالب لم ينسها لمعلّمه مدى عمره ..

وربّ كلمة قد يقولها المعلّم بحقّ ناشئ متعلّم ، يكون فيها افتراء على الله تعالى ، أو حجرٌ لفضل الله على عباده ، وكفى بذلك تعريضاً للنفس إلى مقت الله ، وسوء أحدوثة بين الناس ..!

إنّ الإسلام يأبى أن يكون التعليم بالتعنيف أو التحقير أو التنفير ، وقد مرّ بنا من النصوص الساطعة في هذا المعنى ما لا نحتاج معه إلى بيان أو تدليل ، ولكنّ بعض المعلّمين وللأسف لا يزال يحمل تلك الروح في نفسه ومواقفه ، ولا يزال يصرّ على أن يسلك هذا المسلك المشين في تعليمه ، ومن عجب أنّه يرى أنّ هذا المسلك لا يؤتي إلاّ الثمار الضارّة المرّة ، ثمّ يصرّ بعد ذلك على ما مرد عليه واعتاد .؟!

إنّنا كم نستصغر في أنفسنا أولئك المعلّمين كلّما ذكرناهم ، الذين سلكوا معنا مسلك التعنيف أو التحقير أو التنفير ، أو تنبّئوا لنا في موقف من المواقف بسوء مستَقبلنا ..! ثمّ كذّبتهم أقدار اللهِ تعالى بنا وألطافه ..

وقد كان يسعهم أن يقولوا لنا الكلمة الطيّبة المشجّعة ، التي تفعل فعلها الإيجابيّ في النفس ، وتترك أثرها الذي لا ينسى .؟!

وقد أسرّ لي بعض المعلّمين المربّين الأفاضل بقوله : " ما ندمتُ على كلمة قلتها لطالب من طلاّبي كما ندمت ، ولا أزال أندم على كلمة قلتها لطالب كان على درجة كبيرة من الطيش والرعونة .. فقلت له : " إنّك لا تفلح في العلم أبداً .. " ثمّ مضت الأيّام ورأيته بعد سنوات ، وقد نال الشهادة الجامعيّة بتفوّق ، وأصبح إنساناً آخر ، في سمته وجدّه ، ووقاره وحسن أدبه " .

فليعتبر بذلك المعلّمون .! وليعلموا أنّ المعلّم العاقل الناجح في عمله هو من يرفع شأن المتعلّمين ، ويحثّهم على سموّ الهمم ، والبعد عن سفساف الأمور ، ويصبر على ما يظهر منهم من الجهل والطيش ، ويرفق بهم ، ويلتمس العذر لهم في نفسه مع بذل ما يستطيع من الجهد في تأديبهم وتوجيههم ، ويستشعر عظم مسئوليته عنهم ، كلما رأى منهم قصوراً أو تقصيراً ..

وقد جاء في الحديث الشريف : ( إنما بُعثتُ مُعلّماً ، ولم أُبعث مُعنّفاً ) * .
* سبق تخريجه .

12 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : حسن الاستقبال لطالب العلم ، والترحيب به ، والبشاشة في وجهه ، والترغيب له في العلم ، وحثّه عليه ..

 ـ عن أبي هارون العبدي رحمه الله ، أنه قال : " كنا نأتي أبا سعيد الخدري t فيقول : " مرحباً بوصيّة رسول الله e .! إنّ رسول الله e قال : ( إنّ الناس لكم تبع ، وإنّ رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض ـ أي من نواحيها البعيدة ـ يتفقّهون في الدين ، فإن أتوكم فاستوصوا بهم خيراً ) .

13 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يحترم العلوم الأخرى ، التي يتلّقاها المتعلّم ، ويحثّه على الاهتمام بها ، وألاّ يزدريها أمامه ، ولا يحقّر شأنها ، وما دامت علوماً نافعة ، تحتاج الأمّة إليها فهي من فروض الكفايات ، التي يجبُ على مجموع الأمّة وجوباً كفائيّاً ، وتأثم الأمّة كلّها إن لم تحقّق الكفاية ، وتسدّ النقص .. فإذا هوّن المعلّم من هذه العلوم أمام المتعلّم ، ربما لقي كلامه القبول لديه ، فأهملها واستهتر بها ، وفتح عليه بذلك باب التقصير ، والتخلّف فيها .

14 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يعرف الفضل لأهل الفضل ، ويقدّم من هو أولى منه بالكلام والفتوى ، ويعرف قدرهم ، ولا يغمطهم حقّهم ، ويرشد إلى الأخذ عنهم ، وقراءة كتبهم ، والانتفاع بعلمهم ، فهذا من إخلاصه في طلب العلم وحسن قصده ..

ـ ولا يمنع هذا الأدب من مخالفة العالم غيره من أهل العلم ، فيما هو محلّ اجتهاد ، تسوغ فيه المخالفة ، ولكن الاختلاف في الاجتهاد لا يهدر مكانة الرجال ، ولا ينقص من أقدارهم ..

15 ـ أن  يتحلّى المعلّم  بالعدل  والإنصاف ، ويبتعد عن الغلوّ والإسراف ، أو التقصير والإجحاف ، فالعدل والإنصاف أحمد الأحوال ، وأرقى الخلال ، ومثَلُه كمثَل تناول الدواء بقدر معلوم ، ليكون به الشفاء بإذن الله تعالى ، فترك التداوي فيه تعريض للنفس إلى الهلاك . ومجاوزة الحدّ في تناول الدواء ، فيها السمّ المميت .

ـ فالعدل والإنصاف مع الطلاب والمتعلّمين أجمع لقلوبهم ، وأنفع لهم من معلّمهم ، وفيه تأديب لهم وتربيةٌ على ذلك ..

ـ والعدل والإنصاف في نظرة المعلّم إلى العلوم ، وفي موقفه من الآراء ، ومن  يختلف معهم في الرأي ، ويخالفهم في الاجتهاد .. فيه دليل على اتّزان شخصيّته ، وتأدّبه بأدب العلم ، وسمات أهل الفضل .

16 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يحاسب نفسه بين الحين والآخر ، على أقواله وأفعاله ، ومواقفه وتصرّفاته ، ويزن نفسه بميزان دقيق في كلّ ما يصدر عنه ، ليكون في رقيّ دائم ، وتقدّم مستمرّ ..

هذه أهمّ آداب المعلّم ، وأجمع صفاته ، وهي مقدّمة لما وراءها ، ودليل على سواها ..

ـ قال الجاحظ يوصي طالب العلم المعلّم في بعض أقواله الجامعة : " .. وهب الله لك حسن الاستماع ، وأشعر قلبك حبّ التثبّت ، وجعل أحسن الأمور في عينيك وأحلاها في صدرك ، وأبقاها أثراً عليك في دينِك ودنياك : علماً تفيدُه ، وضالاًّ ترشدُه ، وباباً مِن الخير تفتحُه ، وأعاذك من التكلّفِ ، وعصمك مِن التلوّنِ ، وبغّض إليك اللجاجَ ، وكرّه إليك الاستبدادَ ، ونزّهكَ عن الفُضولِ ، وعرّفك سوءَ عاقبةِ المراء ، ولا أعلم الموصوف بالاستبداد إلاّ مجهّلاً مذموماً .

" فاجعل محاسبة نفسِك صناعةً تعتقدُها ، وتفقّدَ حالاتِك عقدةً ترجعُ إليها ، حتّى تخرجَ أفعالُك مقسومةً محصّلةً ، وألفاظُك موزونةً معدّلةً ، ومعانيك مصفّاةً مهذّبةً ، ومخارِجَ أمورِك مقبولةً محبّبةً ، فمتى كنتَ كذلكَ ،  كانت رقّتُك على الجاهلِ الغبيّ ،  بقدرِ غلظتِك على المعانِدِ الذكيّ ، وتحبّ الجماعةَ بقدرِ بُغضِك للفرقةِ ، وترغَبُ في الاستخارةِ والاستشارةِ بقدرِ زهدِكَ في الاستبدادِ واللجاجةِ ، وتبدأُ مِن العلمِ بما لا يَسَعُ جهلُه قبلَ التطوّعِ بما يسعُ جهلُه ..

" ولا تلتمسِ الفُروعَ إلاّ بعدَ إحكامِ الأُصُولِ ، ولا تنظُر في الطُّرَفِ والغرائِبِ وتؤثِر روايةَ الملَحِ والنوادِرِ ، وكلّ ما خفّ على قُلوب الفُرّاغ ، وراقَ أسماعَ الأغمارِ .

سُئل بعضُ العلماء عن بعض أهل البلدان ، فقال : أبحثُ الناسِ عن صغيرٍ ، وأتركُهم لكبيرٍ .

وسُئل عن بعض الفقهاء ، فقال : " أعلمُ الناسِ بما لم يكن ، وأجهلُهم بما كان " .

وقيل لبعض العلماء : مَن أسوأُ الناسِ حالاً ؟ قال : " مَن لا يثقُ بأحدٍ لسُوءِ ظنّه ، ولا يثقُ به أحدٌ لسُوءِ فعلِه " .
* من كلام الجاحظ في كتاب " البرصان والعرجان والعميان والحولان " ص /3/ .


المبحث الثاني
أهمّ آدابِ المُتعلّم

1 ـ حسن النية ، وسلامة القصد ، فإنما الأعمالُ بالنيّاتِ ، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى ، وينبغي أن يكون هدف المتعلّم وغايته نيل ثواب الله تعالى ومرضاته ، ونفع الأمّة الأسلاميّة التي ينتمي إليها ، ورفعة الإسلام وإعزاز كلمته ، وأن يتطهّر من أعراض الدنيا ، ومقاصدها الدنيّة ، ليسدّد الله تعالى خطاه ، ويفتح عليه ، وينفع العباد به ..

2 ـ أن ينوي بطلب العلم الامتثال والعمل ، وألاّ يطلب بتعلّمه الصيت بين الناس ، وحسن الذكر ، والتقدّم على الأقران ، والرفعة في المجالس ، فإنّ مِن أوّل الناس الذين يُقضى فيهم يوم القيامة : رجل تعلّم العلم ، وعلّمه ، ولم يعمل به ، ولم يخلص لله في تعلّمه وتعليمه ، فيكبّه الله تعالى في النار ..

ففي الحديث الصحيح : ( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ .. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ .. ) .
* رواه مسلم /3527/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .

فينبغي أن يكون هذا الحديث المخيف نُصب عيني طالبِ العَلم ، كيلا يتردّى في مهاوِي فتنة السمعة والرياء ، وابْتغاء أعراض الدُّنيا الفانية بعلمه ، أعاذنا الله منْ شرّ ذلك وعَقابيله بمنّه وكرمه .

وفي الأثر عن جابر  t مرفوعاً : " لا تَعلّموا العلم لتباهوا به العلماء ، ولا لتماروا به السفهاء ، ولا لتجتازوا به المجالس ، فمن فعل ذلك : فالنار النار "  .

ـ ومن وصايا لقمان لابنه : " يابني ! لا تتعلّم العلم لثلاث ، ولا تدعه لثلاث ، لا تتعلّمه لتماري به ، ولا لتباهي به ، ولا لترائي به ، ولا تدعه زهادة فيه ، ولا حياء من الناس ، ولا رضىً بالجهالة .. "

3 ـ التأدّب مع العالم ، والتملّق له ، وشدّة الرغبة فيما عنده ، والصدق في الطلب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : " ذللتُ طالباً ، فعززتُ مطلوباً " .

ـ وقال بعض الحكماء : " من لم يحتمل ذلّ التعلّم ساعة ، بقي في ذلّ الجهل أبداً " .

4 ـ ومن آداب المتعلّم : الصبر على معاناة العلم ، والدأب في تحصيله ، فلا ينال العلم إلاّ بنهم لا يقف عند حدّ ، وهمّة لا تعرف الفتور ، ومن طلب العلى سهر الليالي .

ـ وإنّ من أظهر العلل التي نشكوها في كثير من طلاب العلم اليوم : التشهّي في طلب العلم ، فتراه يقبل برغبة جامحة أيّاماً معدودات ، أو شهوراً قليلةً ، وكأنّه يريد أن يحوز العلم كما يحوز الإنسان بضاعة بماله ، ويتطلّب من مشايخه أو معلّميه كثرة الدروس ومضاعفة الجهود معه ، وحاله لا يستوعب ما يتطلّب ، ثمّ يرى الطريق أمامه طويلاً ، فتفتر همّته ، وتتراخى عزيمته ، ثمّ ينقطع كأن لم يدخل هذا الباب ، ولم يعرفه ..

ـ وقد سُئِلَ رسول الله e : ( أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قَالَ : أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ، وَقَالَ : ( اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا ) * .
*رواه البخاريّ /5984/ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا .

ـ وفي الحديث : ( إنّ هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإنّ المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع ) * .
* رواه البزّار عن جابر رضي الله عنه كما في كشف الخفاء 1/300/ .

5 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يقطع العلائق الشاغلة عن تحصيل العلم ، أو يتقلّل منها ما استطاع ، فإنّ الفكرة إذا توزعت بين عدة أمور قصرت عن إدراك الحقائق ، وكَلّ صاحبها عن النبوغ في العلوم ..

ـ وقد روي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنّه قال : " لو كُلّفنا بصلة ، لما تعلمنا مسألة .. " .

ـ وقد كان السلف يؤثرون العلم على كلّ شئ .

ـ ومن أخطر العوائق القاطعة عن العلم : ابتغاء عرض الدنيا فيما يطلب من العلم ، والإصرار على المعاصي والمحرمات التي تذهب بنور العلم وبهائه ، وتحرم طالب العلم من خير كثير ، وتحجبه عن تفرغ القلب والعقل لإدراك العلوم وتحصيلها .

ـ وقد بين الإمام الشافعي رحمه الله تعالى خطر المعاصي على طالب العلم ببيتين من الشعر ، طارا بين طلبة العلم مثلاً ، ولكن أين نحن منهما .؟! يقول رحمه الله :

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حِفظي          فأرشدَنِي  إلى  تركِ المعاصِي
وأخبرني    بأنّ  العلمَ     نُورٌ        ونُورُ اللهِ ، لا يُهدَى لِعَاصِي

6 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يتحقّق بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن ، امتثالاً لأوامر الله واجتناباً لنواهيه ، فتقوى الله سبحانه : خير أسباب توفيق الله وفضله ، وفتحه على عباده في الفهم والعلم .

ـ فالعلم والتعليم فتح من الله سبحانه وتوفيق ، فليكثر الطالب من سؤال الله ودعائه أن يفتح عليه بالعلم النافع ، ويوفّقه للعمل الصالح ، ويفهّمه ما استغلق عليه من العلوم ، وأن يزيده علماً وفهماً .

ـ وإنّ خير أسباب الفتح والتوفيق والمزيد : أن يتواضع لله تعالى ، ويستشعر فضل الله عليه فيما يعلم .

7 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يسأل عما لا يعلم ، مما ينفعه علمه ، ولا يستحيي من السؤال ، فلن ينال العلم مستكبرٌ ولا مستحٍ .. ولا ينبغي أن يسأل إحراجاً ولا إعناتاً ، وأن يحسن السؤال ، ويفكّر فيما يسأل قبل أن يسأل ، فالسؤال مفتاح العلم ، ودليل العقل .

ـ وقد قيل لابن عباس رضي الله عنهما : " بمَ نلت هذا العلم ؟ قال : بلسانٍ سئُولٍ ، وقلبٍ عقُول " .

ـ وروي في الحديث الشريف : " إنّما شفاءُ العِيّ السؤالُ " * .
* رواه ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه أحمد والدارمي و الدارقطني ، وفيه قصّة كما في كشف الخفاء 1/247/ .

ـ وفي الأثر : " حسن السؤال نصف العلم " .

ـ وينبغي أن لا يسأل إلاّ استرشاداً وتعلّماً ، ولا يكثر الأسئلة ، ولا يعترض على معلّمه أمام طلابه إلاّ إذا أخطأ في كتاب الله تعالى ، أو أمر من الدين ظاهر .. ولكنّه لا يخرج باعتراضه عن الأدب بحال .

8 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يعرف للمعلّم عظيم حقّه ، وفضل علمه ، ويشكر له جميل فعله .

ـ وقد رجّح كثير من الحكماء حقّ العالم على حقّ الوالد ، حتّى قال بعضهم :

مَن علّم الناسَ كانَ خيرَ أبٍ            ذاك أبو الروحِ لا أبُو الجيف

وذلك لأن حياة الروح بالعلم ، وحياة الجسد بالروح ، فالعلم مادّة الروح الإنسانيّ ، كما أن النطفة مادّة الجسد والروح الحيوانيّ .. والروح الإنسانيّ أفضل الأرواح ، فمن ثمّ كان المعلّم خير الآباء ..

ـ وقال الشاعر :
إنّ  المُعلّمَ  والطبيبَ  كلاهُما             لا ينصحان  إذا  هُما  لم يُكرَما
فاصبر لدائكِ إن أهنتَ  طَبيبَه            واصبر لجهلِكَ إن جَفوتَ مُعلّما

ـ فمن حقّ المعلّم :

إذا ماشيته أن تقدّمه عليك في الدخول والخروج ، وإذا التقيته فأعطه حقّه من السلام والاحترام ، وإذا اشتركت معه في حديثٍ فمكّنه من الكلام قبلك ، واستمع  إليه بإصغاء وإجلال ، ولا ترفع صوتك في حضرته ، وإذا سُئلت عنْ مسألةٍ بين يديه فحوّل السائل إليه .. وإذا كان في الحديث ما يدعو إلى المناقشة فناقشه بأدبٍ وسَكينةٍ ولُطف ، وغُضّ مِن صوتك في حديثك إليه ، وإذا خاطبته أو ناديته ، فلا تنس تكريمه في الخطاب والنداء ، ونَاده بأحبّ الأسماءِ إليه ، وأكرمِ الألقَاب والصفَات ، وصُن سُمعته ، واحفظ غَيبته .. ويتوجّب عليك هذا الحقّ كلّه لمن كان أكبر منك سنّاً ..

ـ ففي الحديث الشريف عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : ( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ ) * .
* رواه أحمَد /21693/ .

9 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يحرص على الفائدة والحكمة ، فهي ضالّة المؤمن ، أينما وجدها التقطها ، وهو أحقّ بها ، كما جاء في الحديث الشريف  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( الكَلِمَةُ الحكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ) * .
* رواه الترمذيّ /2611/ وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

10 ـ ومن أهمّ آداب المتعلّم : أن يحرص على العلم النافع ، ويبتعد عن العلوم الضارّة وفضول العلم ، ومسائل الاختلاف في مبدأ أمره بخاصّة ، فإن ذلك يحّير عقله ، ويشتّت ذهنه ، ويشغله عما هو أهمّ له وأولى ..

وهل أهلك البشريّة اليوم إلاّ العلوم الضارّة التي اتّخذها المفسدون في الأرض وسائل للتدمير والقتل ، والبغي على عباد الله والطغيانِ ، وسفك الدمَاء والإفْساد لموارد الحياة .!؟

ـ ثمّ ينبغي له أن يأخذ من كلّ شئ أحسنه ، لأنّ العمر لا يتسع لتحصيل جميع العلوم واستقصائها ، وليحرص دائماً على الاستزادة من أشرف العلوم وأجلّها ، وهي ما يتعلّق بالآخرة ، التي عليها مدار السعادة والفلاح ، وكلّ ما يزيد المؤمن قرباً من الله تعالى ، واستقامةً عَلى دِيْنه ومَنْهجه ..

11 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يقتدي بمعلّمه في جميل أخلاقه ، ويتشبّه به في صالح أفعاله وأحواله ، ويحرص على نصحه ، ويستجيب لتوجيهه ، وينبغي أن يلتمس لمعلّمه العذر ما أمكن إن اطّلع على بعض أخطائه أو تقصيره ، فلعلّ له عذراً وأنت تلومُ ..

ـ ومن كلام ابن سيرين رحمه الله : " إنّ هذا العلم دِينٌ ، فانظُرُوا عمّن تأخُذُون دِينكم " .
* رواه مسلم في مقدّمة صحيحه .

12 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يغتنم أوقاته وينظّمها ، ويحرص على ملئها بالنافع المفيد ، ويحذر من ضياع الأوقات ، أو صحبة الفارغين البطّالين ..

فما ضيّع طالبَ العلم وأفسد عليه شأنه مِثلُ قتلِ الأوقات في غير فائدة ، والتفريطِ بها بغير حسابٍ ، وصُحبةِ البطّالين الذين يزيّنون له ذلك ، ويغرونه به ..

وإنّ من أهمّ أسس التربية الإسلاميّة وأصولها : التربية على حفظ الأوقات ورعايتها ، وإعطاء كلّ وقت حقّه من الجِدّ وفعل الخير ..

وإنّ خير ما يعين طالب العلم على ذلك مطالعة سير السلفِ الصالح في هذا الشأن ، والحرص على الاقتداء بهم فيما كانوا عليه من الجِدّ والاجتهاد في استثمار أوقاتهم ، والانتفاع بهَا على أحسن وجه ، وقد أتوا في هذا البابِ بالعجب العجاب * .
* أنصح كلّ طالب علم أن يقرأ ما جمعه من ذلك أستاذنا العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمه الله في كتابيه : " قيمة الزمن عند العلماء " و " صفحات من صبر العلماء " وما كتبه الدكتور العلاّمة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه : " الوقت في حياة المسلم " .

13 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يحرص على حسن العلاقة مع إخوانه المتعلّمين وسموّها ، ويبذل النصح لهم ، ويكفّ الأذى عنهم ، وينافسهم في طلب العلم ، والجدّ والاجتهاد ، ويتواضع لهم ، ويكون لين الجانب معهم . 

14 ـ ومن آداب المتعلّم أيضاً : حسن السمت والوقار ، والاعتناء بالنظافة وجمال المظهر ، والبعد عن كل ما يُنفّر أو يُستقبَح ، ومراعاة الآداب العامة ، كآداب الطريق ، وآداب الزيارة والضيافة ، وآداب الأخوّة والحقوق الاجتماعية *..
* وقد جمع أستاذنا العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمه الله في رسالته : " من أدب الإسلام " أهمّ هذه الآداب بصورة نافعة ممتعة .

ـ ففي الحديث الشريف : ( إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ ) * .
* رواه أبو داود /3566/ عن أبي خريم الأسدي t ، وأحمد في المسند .

ـ وفي الحديث أيضاً : ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ .. ) * .
* جزء من حديث رواه مسلم /131/ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ t ، ورواه الترمذيّ /1922/ وأحمد في المسند .

ـ وفي الحديث أيضاً : ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ ، فَقَالُوا : مَا لَنَا بُدٌّ ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ، قَالَ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاّ الْمَجَالِسَ ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا ، قَالُوا : وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ .؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأذَى ، وَرَدُّ السَّلامِ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ ) * .
* رواه مسلم /2285/ و /2121/ و /4021/ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t ، ورواه أبو داود /4181/ وأحمد .

15 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يبتعد عن الخصام والجدال ، والمراء وكثرة القيل والقال ، وليعلم أنّ ذلك يوغر الصدور ، ويذهب ببركة العلم وبهائه ، ويحرمه من فتح الله عليه وتوفيقه ، ويكون علمه بذلك حجّة عليه يوم القيامة وسبباً لهلاكه ..

وأخيراً ؛ ففي تراثنا التربويّ ذخيرة فكريّة عظيمة ، وتفصيل دقيق من أئمّة الإسلام لما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم مع أستاذه وشيخه من أدب جمّ ، وخلق طيّب ، وعلاقة متميّزة ، تضاهي علاقة الأبناء بآبائهم ، بل تفوقها في كثير من الأحيان ، ومن ذلكَ ما يقوله الإمام بدر الدين بن جماعة في تفصيل ذلك وتصويره : " وينبغي أن ينقاد التلميذ لشيخه في أموره ، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره ، فيشاوره فيما يقصده ، ويتحرّى رضاه فيما يعتمده ، ويبالغ في حرمته ، ويتقرّب إلى الله بخدمته ، ويعلم أنّ ذلّه لشيخه عزّ وتواضعه له رفعة .. وأن يعرف له حقّه ، ولا ينسى فضله ، ويعظّم حرمته ، ويردّ غيبته ، ويغضب لها " .

وفي مقابل ذلك يوضّح الإمام ابن جماعة ما على المعلّم من مسئوليّة جسيمة في رعاية طلاّبه ، وتفقّد أحوالهم ، والحدب عليهم كحدب الآباء على أبنائهم فيقول رحمه الله :

" وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ، ويعامله بما يعامل به أعزّ أولاده مِن الحنوّ والشفقة والإحسان إليه ، والصبر على جفاءٍ ربما وقع منه ، ونقصٍ لا يكاد يخلو الإنسان منه ، وسوء أدب في بعض الأحيان ، ويبسط عذره بحسب الإمكان ، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطّف ، لا بتعنيف وتعسّف ، قاصداً بذلك حسن تربيته ، وتحسين خلقه ، وإصلاح شأنه .. " .

" وينبغي أن يتودّد لحاضرهم ، ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء ، وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ، ومواطنهم وأحوالهم ، ويكثر الدعاء لهم بالصلاح " .

" وينبغي أن يسعى في مصالح الطلبة ، وجمع قلوبهم ومساعدتهم بما تيسّر عليه من جاه ومال عند قدرته على ذلك ، فإنّ الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ، ولا سيّما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم ، الذي هو أفضل القربات .. وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة غياباً زائداً عن العادة سأل عنه ، وعن أحواله ، وعمّا يتعلّق به ، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه ، أو قصد منزله بنفسه ، وهو أفضل .. " .

ويقول أَيضاً رحمه الله في بيانِ مثوبة العالم المعلّم عند الله ، وما له من عظيم الأجر : " واعلم أنّ الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعزّ الناس عليه ، وأقرب أهله إليه ، ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شباك الاجتهاد لصيد طالب علم ينتفع الناس به في حياتهم ، ومن بعدهم ، ولو لم يكن للعالم إلاّ طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى ، فإنه لا يتّصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلاّ كان له نصيب من الأجر .. " .

ويعدّد الإمام الغزاليّ رحمه الله صفات المعلّم المربّي فيقول : " أن يكون المعلّم عاملاً بعلمه ، فلا يكذّب قوله فعله ، لأن العلم يدرك بالبصائر ، والعمل يدرك بالأبصار ، وأرباب الأبصار أكثر ، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد ، وكلّ من تناول شيئاً وقال للناس : " لا تتناولوه فإنه سمّ مهلك " سخر الناس به ، واتّهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه " .

ويستعرض الأسلوب الأمثل لتقويم الناشئ وتهذيبه فيقول : " أن يزجر المتعلّم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ، ولا يصرّح ، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ ، فإن التصريح يهتك الهيبة ، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ، ويهيج الحرص على الإصرار " .

" وإذا رأى المعلّمُ من أحد طلبته مكروهاً ، ولحظ في سلوكه اعوجاجاً ، فلا يصرّح له بذلك مباشرة ، بل يعرض له في سياق كلامه مع الطلبة جميعاً ، كاشفاً عن وجه المذمّة في المكروه إجمالاً ، فتحصل بذلك الفائدةُ المنشودة " .

ويقول الإمام الغزاليّ أيضاً : " إنّ التعليمَ يقع أوّلاً عن طريقِ الحسّ ، ثمّ بالتفكير والقياس ، وأخيراً بالحدس ، فالإنسان إذا تعلّم وارتاض بالعلم أصبح يفكّر فيما تعلّمه ، وانفتح له باب الغيب " .

وينصح الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله ولده بمعان نفيسة ممّا أفاض الله على قلبه من الحكمة فيقول : " واعلم يا بنيّ أنّ الأيام تبسط ساعات ، والساعات تبسط أنفاساً ، وكلّ نفسٍ خزانة ، فاحذر أن تذهب نفساً في غير شيءٍ ، فترى يوم القيامة خزانة فارغةً فتندم ..

" وفي الحديث : ( من قال : سبحان الله وبحمده ، غُرست له نخلة في الجنّة ) [ الترمذيّ : 3464] ، فانظر إلى مضيّع الساعَاتِ كم يفوته من النخل .؟! " .

" فانتبه يا بنيّ لنفسك ، واندم على ما مضى من تفريطك ، واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة ، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبةٌ ، واذكر ساعاتك التي ضاعت ، فكفى بها عظةٌ ، ذهبت لذّة الكسل فيها ، وفاتت مراتب الفضائل ، وقد كان السلف رحمهم الله يحبّون جمع كلّ فضيلة ، ويبكون على فوات واحدة منها " .

ويقول رحمه الله : " .. ولا تشتغل بعلم حتّى تحكم ما قبله ، وتلمّح سير الكاملين في العلم والعمل ، ولا تقنع بالدون ، فقد قال الشاعر :

ولم أر في عيوب الناس شيئاً      كنقص القادرين على التمام

" واعلم أنّ العلم يرفع الأراذل ، فقد كان خلقٌ كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر ، ولا صورة تستحسن ، وكان عطاء بن أبي رباح أسود اللون ، ومستوحش الخلقة ، وجاء إليه سليمان بن عبد الملك ، وهو خليفة ومعه ولداه ، فجلسوا يسألونه عن المناسك ، فحدّثهم ، وهو معرضٌ عنهم ، فقال سليمان الخليفة لولديه : قوما ، ولا تنيا ، ولا تكاسلا في طلب العلم ، فما أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود ! " .

" وكان الحسن البصريّ مولىً ـ مملوكاً ـ وابن سيرين ، ومكحول ، وخلق كثير ، وإنما شرفوا بالعلم والتقوى " .

وذخائر السلف في الفكر التربويّ كثيرة متنوّعة ، شاملة محيطة ، لا يمكن أن تجمع في كلمات عابرة ، وإنما تصلح أن تكون منها دراسة علميَّة متخصّصة ، تجمع شواردها ونوادرها ، وتستقصي حقائقها ، ولكن حسبنا ما ذكرنا هَا هنا ، من هذه النبذة المختصرة ، والله يتولاّنا برحمته وهداه .




المبحث الثالث
آداب المناقشات العلميّة

العقول والأفهام منح إلهيّة ، قضت حكمة الله تبارك وتعالى أن تتفاوت وتتفاضل ، كما قضت حكمة الله سبحانه وتعالى بهذا التفاوت والتفاضل في كلّ نعمه وآلائه ، ومنحه وهباته .. .

وقد يقع بسبب هذا التفاوت بين الأفراد والجماعات خلاف ، ولكن يجب أن يكون الباعث إليه الإخلاص ، وأن تكون غاية الجميع طلب الحقّ ، وطالب الحقّ يسعى وراء الحقّ ، ويدور معه حيث دار ، سواء أظهر على لسانه أم لسان غيره ..

أمّا العناد والمكابرة ، ومدافعة الحقّ إذا ظهر ، والتعصّب للآراء أو الأشخاص فكلّ ذلك من أمراض القلوب ، ورعونات النفوس ، وهي مما ينبغي أن يربأ عنها العاقل ، فضلاً عن المسلم التقيّ المستقيم ..

وقد اختلف الصحابة y ، وتناظروا في كثير من مسائل العلم ، ولكن غرض الجميع كان طلب الحق ، ومعرفة وجهه ..

ويختلف الناس في كلّ عصر ، وتقع بينهم مناظرات في أمور ، ينظر إليها فريق من جانب ، وفريق من جانب آخر .. وقد تعلو الآراء وتسفُل ، وتقوى وتضعف ، وتمتدّ وتقصُر ، وتبعد وتقرب ..

والمناظرات محكّ عقول الرجال ، وبها يتوصّل الباحثون المخلصون إلى الحقّ المنشود ، إذا راعى الناس آدابها ، والتزموا بقواعدها وأصولها ، ومن أهمّ آدابها :

1 ـ أن  يترك  المتناظرون  كلّ رغبة في الغلبة والانتصار على مناظريهم ، لأنّ ذلك ينافي الإخلاص في طلب الحقّ المنشود من جهة ، ويوغر الصدور بالعداوة ، ويزرع فيها الضغائن والأحقاد ، ويدفع المناظر الآخر إلى العناد والمكابرة من جهة أخرى ..

كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول : " ما ناظرني أحد ، إلاّ وأحببت أن يظهَرَ الحقّ على لسانه أو لساني .. " .

2 ـ  أن يتركوا التعالي والتغالي ، والدعاوي الباطلة في الثناء على أنفسهم وآرائهم ، أو آراء من ينتصرون لهم ، ويدَعُوا انتقاص آراء مخالفيهم ، والحطّ منها ، والإزراء عليها ..

3 ـ وأن يدَعُوا التعالم والتفاصح على الناس ، فإنّ ذلك مما يبعث الكراهية والمقت عند الله تعالى ، وعند الناس .. ويُصمّ آذان الناس عن سماع الحقّ المنشود ، ويصرف القلوب عن قبوله ..

4 ـ وأن يحذروا أن تنقلب المناظرة إلى مراء وجدال ، فإنّ الجدال والمراء لا يأتيان بخير ، ولا يوصلان إلى الحقّ ..

ففي الحديث الشريف : ( ما ضَلّ قَومٌ بعدَ هُدَىً كانُوا عَليهِ إلاّ أُوتُوا الجدَلَ ) * .
* رواه الترمذيّ /3176/ عن أَبِي أُمَامَةَ t ، وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجة في المقدّمة /47/ والحاكم وصحّحه ، وأحمد في مسنده .

وفي الحديث أيضاً : ( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ ، وَإِنْ كَانَ مَازِحاً ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ ) * .
* رواه أبو داود /4167/ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ t ، والترمذي وابن ماجة وأحمد بألفاظ مقاربة .

5 ـ وأن يحذروا من رفع الأصوات ، وتوجيه الكلام غير اللائق ، وتحويل المناقشة العلميّة إلى اتّهام النيّات ، وتجريح الأشخاص أو الهيئات ..

وإنّ حلية أهل العلم والفضل : السكينة والوقار ، والبعد عن اللغو ، وكثرة القيل والقال ..

6 ـ وأن يتيح المناقش الفرصة الكافية للطرف الآخر ، للتعبير عن رأيه ، والتدليل عنه ، وأن يصغى إليه ، ولا يقاطعه في حديثه حتّى ينتهي .. ويجتهد في تفهّم وجهة نظره ، والتعرّف على أدلّته ، أو الشبهات التي يستند إليها في قوله ..

7 ـ وأن يتحلّى بالموضوعيّة التامّة في نقد الآراء والأفكار ، بعيداً عن العاطفيّة والانفعال وردود الفعل . وأن يفصل بين الرأي وقائله ، إذ إنّ أكثر الناس يحدّدون مواقفهم من الآراء والأفكار ، تبعاً لمواقفهم ممّن يحملها أو ينادي بها . فكم من كلمة حقّ هجرت ، لأنّ قائلها مغمور بين الناس ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.! وكم من كلمة باطل قُبلت ، لأن قائلها ذو جاه ورئاسة .!

وقد روي عن عليّ t أنّه قال : " اعرِفِ الرجالَ بالحقّ ، ولا تَعرفِ الحقَّ بالرجالِ " .

ـ وفي رواية رويت من كلام عمر t : " اعرف الحقّ تعرف أهله " .

هذه أهمّ آداب المناقشات العلمية ، إذا تحقّق بها المتناظرون ، أثمرت مناظرتهم تفهّم وجهات نظر بعضهم بعضاً ، وانكسرت حدّة الخلافات ، وزالت أسباب سوء الفهم أو سوء الظنّ ، واتّسعت مدارك كلّ فريق .. وأمكن التقاء الجميع ، وتفاهمهم في دائرة الأمور المتفق عليها ، المسلّم بها .. والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل .


الخاتمة .. ونسأل الله تعالى حسنها


وختاماً ، فإنّ المحور الذي تدور حوله رسالة المعلّم ، وتصدر عنه آداب العالم والمتعلّم ، أن يكون حملة العلم قدوة حسنة ، وأسوة صالحة لمن يُعلّمونهم ، يرون من أخلاقهم وسلوكهم ، وسمتهم وأدبهم ، وكلامهم ومواقفهم ، ما يطبع في نفوسهم أزكى الصفات ، ويحبّب إليهم الحقّ ، ويزيّنه في قلوبهم ، فلا تزال نبتته تنمو وتزهر ، وتُؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربها ، فلا تستطيع شوائب الفساد والانحراف ، أن تدخل القلوب ، أو تعشّش حولها .

وإن المعلّم الذي يهدم بفعله ما يبني بقوله ، فإنّ أوّل ما يهدم من قلوب أبنائه ثقتهم به ، فلا ينظرون إليه أنّه الأسوة الحسنة لهم ، والقدوة المحببة ، وهذا ما يحدث الانفصام في حياتهم بين العلم والعمل ، والقول والسلوك ، وينبت خلائق التصنّع  والنفاق ، والكذب الاجتماعيّ ، وتلك من أهمّ أسباب بوار الأمم وهلاكها .. وهذا ما يترك أيضاً المجال الواسع ، والمرتع الخصب ، لشياطين الإنس والجنّ : أن تستولي على القلوب ، وتستهويها ، وتصدّ الناس عن سبيل الله ، وصراطه المستقيم ..

 وإنّ من أعظم أسباب خلود رسالة الإسلام ، خلود شخصية رسول الله e وعصمته ، وقد جعله الله تعالى الأسوة الحسنة للمؤمنين .

وشهد له أعظم شهادة فقال سبحانه : ( وإنك لعلى خلق عظيم )   القلم/4  .

لقد جمع الله تعالى لهذه الأمة بين حفظ القرآن الكريم ، وهو الوحي المنزّل ، والمنهج المكتوب ، وبين حفظ المنهج العمليّ ، المتمثل في سيرة النبيّ المعصوم ، صلوات الله وسلامه عليه ، وسنّته النبويّة المطهّرة .. فكانت بذلك الأمّةَ الخاتمةَ بحقّ ، حاملةَ رسالة العلم والتعليم ، والريادة للأمم والشهادة على الناس ..


اللهمّ إنّا نسألُك عِلماً نافِعاً ، وقلباً خاشِعاً ، ورِزقاً حَلالاً واسِعاً ، وعمَلاً مُتقبّلاً ، وَشِفاءً مِن كُلِّ داء ، ونَسألُكَ اللهمّ حُبَّكَ ، وحبّ مَن يحبُّكَ ، وحُبّ العمل الذي يُقرّبُنا إلى حُبّك . ونَسألُكَ العمَلَ بكتابِك ، والاتباعَ لسنّة نبيّكَ سيّدِنا محمّدٍ  e ، في الأقوالِ والأفعالِ والأخلاقِ والأحوالِ والآداب .


اللهمّ علّمنا ما ينفعُنا ، وانفَعنا بما علّمتَنا ، وزِدنا عِلماً وعمَلاً وفِقهاً في الدينِ ، وسلامٌ على المرسلينَ ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ .


وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد الطاهر الزكيّ ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين

نداء ورسالة إلى كلّ معلّم ومعلّمة !


أيّها المعلّمون ! طوبى لكم هذه المهنة ، مهنة الأنبياء والمرسلين .. وهنيئاً لكم هذا الشرف ، شرف تربية النفوس وبناء العقول .. إنّها تجمع لكم بين أجري الدنيا والآخرة .. فارفعوا هممكم عن الوقوف عند عرض الدنيا الزائل ..

ـ اخدموا هذه المهنة الشريفة ؛ برفع مستواكم العلميّ والتربويّ ، والتقاط الحكمة حيث كانت ، ومواكبة وسائل العصر ومستجدّاته ، إذ كيف يرجى العطاء المتميّز من جاهل بزمانه ، أو مجافٍ له ، ومُتخلّف عن عصره غير بصيرٍ به .؟!

وها هي ذي الأسر ، تلقي إليكم كلّ يوم بفلذات أكبادها ، والمجتمع يلقي إليكم ببراعم أكمامه ، ويضع بين أيديكم أمانة غالية ، ويحمّلكم مسئوليّة عظيمة .. وأمّتكم تعلّق على جهادكم الآمال العريضة ..

ـ إنّ الآمال التي يعقدها الأباء والأمّهات على أبنائهم ، أنتم السبيل إلى تحقيقها ، وإنّ قلوبَ أهل الأرض تتطلّع إلى جهدكم وجهادكم ، وملائكةَ السماء تحفّكم وترعاكم  ، والله سبحانه وتعالى يرى عملكم ، ويشهد

     قيامكم بحقّ هذه الأمانة ، أو تفريطكم فيها ..

ـ لقد بوّأكم الله تبارك وتعالى مقاماً عظيماً ، اختصّ به ذاته العليّة ، وجعله أشرف مهمّات رسله الكرام.. فأخلصوا لله نيّاتكم ، واحتسبوا عند الله عملكم وجهادكم ، وقدّروا شرف المهمّة ، وعظم الأمانة ، وجليل المسئوليّة ، واعلموا أنّه لن يقدر أحد جهادكم حقّ قدره سوى خالقكم الذي يعلم السرّ وأخفى ، فعلّقوا قلوبكم بالله U ، وابتغوا مرضاته في كلّ شأن ..

واعلموا ـ أيّها المعلّمون ـ أنّكم تضعون بصماتكم على شخصيّة أبناء الأمّة ، وقلوبهم وعقولهم وسلوكهم .. فانظروا أيّ البصمات تضعون ؟ وتتركون في قلوبهم ، وعلى ألسنتهم الذكرى .. فأيّ ذكرى تتركون ..؟!

إنّ نهضة التعليم أنتم روّادها ، وأمدادها ، فقوّموا أنفسكم من خلال ثمراتكم وآثاركم .. وإنّ مفخرة سلفنا كانت بأساتذتهم وتلاميذهم على حدّ سواء .. فكم من تلميذ رفع أستاذه ، وفاقه ! وأعلى قدره  وخلّد ذكره .!

وكم كان للأساتذة والشيوخ والأئمّة في هذه الأمة من أثر جليل في بناء الرجال ، وتخريج القادة ، وصنع الأبطال الفاتحين ، وصياغة الحضارة الإسلاميّة المشرقة الزاهرة في كلّ جانب من جوانبها ..!

أيّها المعلّمون ! لا تنسوا أنّ هذه المدارس والمعاهد تزدان بكم وتزهر ، وأنتم تزدانون بنور قلوبكم ، وصفاء نيّاتكم ، وسلامة قصدكم ، واجتهادكم في البذل والعطاء ، وسلوككم المتألّق القدوة ..

أنتم مصابيحُ الأمّة ، وتيارُها نبضُ قلوبكم ، وقوّة يقينكم ، وحماستكم للخير الفيّاضة ..

فأيّ فلاح للأمّة .؟ إن احترقت مصابيحها ، أو تقطّعت خطوط تيارها ، أو همدت حرارة دمها ؟!

وكيف ترجى لها نهضة ورقيّ ، ومنافسة لأمم الأرض ؟! إن خفتت فيها المصابيح .. وتلاشت في جنباتها الأنوار ؟!

أيّها المعلّمون ! سيذهب الجهد والتعب ، وتبقى الآثار والثمرات ، والأجر والمثوبة ، فانظروا ببصائركم إلى الآثار والثمرات ، ومثوبة الآخرة تنس أجسادكم التعب الحاضر ، والمشقّات العارضة ..



أهمّ المراجع
1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي .
3 ـ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف ـ مجموعة من المستشرقين .
4 ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني .
 5 ـ شرح النووي على صحيح مسلم .
6 ـ سنن الترمذي .
7 ـ سنن أبي داود .
8 ـ سنن النسائي .
9 ـ سنن ابن ماجه .
10 ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل .
12 ـ فهرس مسند الإمام أحمد ترتيب أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول .
13 ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير .
14 ـ رياض الصالحين ـ للإمام النووي ـ تحقيق رباح والدقاق .
15 ـ الترغيب والترهيب للحافظ المنذري .
16 ـ إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد محمّد الغزالي .
17 ـ أدب الدنيا والدين ، للإمام الماوردي .
18 ـ تذكرة السامع والمتكلّم في آداب العالم والمتعلّم للإمام بدر الدين بن جماعة .
19 ـ الدعوة للإسلام وأركانها للشيخ أحمد عز الدين البيانونيّ .
20 ـ من محاسن الإسلام للشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ .

21 ـ منهاج التربية الصالحة للشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق