9 ـ وليعلم حامل العلم : أنّ في العلم لذّة هي عوض عن كل لذّة ،
وغناء عن كلّ رغبة ، أو حظّ من الدنيا الزائلة .. متى كان صادق النيّة فيه ، صحيح
الهمّة ، طموح العزيمة ، يبتغي الأجر من الله والمثوبة ..
10 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن
يزجر عن سوء الأخلاق بالتعريض ما أمكن ، بدون أن يعيّن إنساناً أو يوبّخه أمام
إخوانه ، وكان النبيّ e إذا نهى عن أمر فعله بعض الناس يقول : " ما
بالُ أقوامٍ يفعلون كذا وكذا .. " .
11 ـ ومن أهمّ آداب المعلّم
أيضاً : ألاّ يُعنّف متعلّماً ، ولا يحقّر ناشئاً ، ولا يستصغر مبتدئاً ، فصغير اليوم كبير الغد ، وربّ كلمة أساءت
لطالب لم ينسها لمعلّمه مدى عمره ..
وربّ كلمة قد يقولها المعلّم بحقّ
ناشئ متعلّم ، يكون فيها افتراء على الله تعالى ، أو حجرٌ لفضل الله على عباده ،
وكفى بذلك تعريضاً للنفس إلى مقت الله ، وسوء أحدوثة بين الناس ..!
إنّ الإسلام يأبى أن يكون التعليم
بالتعنيف أو التحقير أو التنفير ، وقد مرّ بنا من النصوص الساطعة في هذا المعنى ما
لا نحتاج معه إلى بيان أو تدليل ، ولكنّ بعض المعلّمين وللأسف لا يزال يحمل تلك
الروح في نفسه ومواقفه ، ولا يزال يصرّ على أن يسلك هذا المسلك المشين في تعليمه ،
ومن عجب أنّه يرى أنّ هذا المسلك لا يؤتي إلاّ الثمار الضارّة المرّة ، ثمّ يصرّ
بعد ذلك على ما مرد عليه واعتاد .؟!
إنّنا
كم نستصغر في أنفسنا أولئك المعلّمين كلّما ذكرناهم ، الذين سلكوا معنا مسلك
التعنيف أو التحقير أو التنفير ، أو تنبّئوا لنا في موقف من المواقف بسوء
مستَقبلنا ..! ثمّ كذّبتهم أقدار اللهِ تعالى بنا وألطافه ..
وقد
كان يسعهم أن يقولوا لنا الكلمة الطيّبة المشجّعة ، التي تفعل فعلها الإيجابيّ في
النفس ، وتترك أثرها الذي لا ينسى .؟!
وقد
أسرّ لي بعض المعلّمين المربّين الأفاضل بقوله : " ما ندمتُ على كلمة قلتها
لطالب من طلاّبي كما ندمت ، ولا أزال أندم على كلمة قلتها لطالب كان على درجة
كبيرة من الطيش والرعونة .. فقلت له : " إنّك لا تفلح في العلم أبداً ..
" ثمّ مضت الأيّام ورأيته بعد سنوات ، وقد نال الشهادة الجامعيّة بتفوّق ،
وأصبح إنساناً آخر ، في سمته وجدّه ، ووقاره وحسن أدبه " .
فليعتبر
بذلك المعلّمون .! وليعلموا أنّ المعلّم العاقل الناجح في عمله هو من يرفع شأن
المتعلّمين ، ويحثّهم على سموّ الهمم ، والبعد عن سفساف الأمور ، ويصبر على ما
يظهر منهم من الجهل والطيش ، ويرفق بهم ، ويلتمس العذر لهم في نفسه مع بذل ما
يستطيع من الجهد في تأديبهم وتوجيههم ، ويستشعر عظم مسئوليته عنهم ، كلما رأى منهم
قصوراً أو تقصيراً ..
وقد جاء في الحديث الشريف : ( إنما
بُعثتُ مُعلّماً ، ولم أُبعث مُعنّفاً ) * .
* سبق تخريجه .
12
ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : حسن الاستقبال لطالب العلم ، والترحيب به ، والبشاشة في
وجهه ، والترغيب له في العلم ، وحثّه عليه ..
ـ عن أبي هارون العبدي رحمه الله ، أنه قال :
" كنا نأتي أبا سعيد الخدري t فيقول : " مرحباً بوصيّة رسول الله e .! إنّ رسول الله e قال : ( إنّ الناس لكم تبع ، وإنّ رجالاً يأتونكم من أقطار
الأرض ـ أي من نواحيها البعيدة ـ يتفقّهون في الدين ، فإن أتوكم فاستوصوا بهم
خيراً ) .
13
ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يحترم العلوم الأخرى ، التي يتلّقاها المتعلّم ،
ويحثّه على الاهتمام بها ، وألاّ يزدريها أمامه ، ولا يحقّر شأنها ، وما دامت
علوماً نافعة ، تحتاج الأمّة إليها فهي من فروض الكفايات ، التي يجبُ على مجموع
الأمّة وجوباً كفائيّاً ، وتأثم الأمّة كلّها إن لم تحقّق الكفاية ، وتسدّ النقص
.. فإذا هوّن المعلّم من هذه العلوم أمام المتعلّم ، ربما لقي كلامه القبول لديه ،
فأهملها واستهتر بها ، وفتح عليه بذلك باب التقصير ، والتخلّف فيها .
14
ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يعرف الفضل لأهل الفضل ، ويقدّم من هو أولى منه
بالكلام والفتوى ، ويعرف قدرهم ، ولا يغمطهم حقّهم ، ويرشد إلى الأخذ عنهم ،
وقراءة كتبهم ، والانتفاع بعلمهم ، فهذا من إخلاصه في طلب العلم وحسن قصده ..
ـ
ولا يمنع هذا الأدب من مخالفة العالم غيره من أهل العلم ، فيما هو محلّ اجتهاد ،
تسوغ فيه المخالفة ، ولكن الاختلاف في الاجتهاد لا يهدر مكانة الرجال ، ولا ينقص
من أقدارهم ..
15
ـ أن يتحلّى المعلّم بالعدل
والإنصاف ، ويبتعد عن الغلوّ والإسراف ، أو التقصير والإجحاف ، فالعدل
والإنصاف أحمد الأحوال ، وأرقى الخلال ، ومثَلُه كمثَل تناول الدواء بقدر معلوم ،
ليكون به الشفاء بإذن الله تعالى ، فترك التداوي فيه تعريض للنفس إلى الهلاك .
ومجاوزة الحدّ في تناول الدواء ، فيها السمّ المميت .
ـ
فالعدل والإنصاف مع الطلاب والمتعلّمين أجمع لقلوبهم ، وأنفع لهم من معلّمهم ،
وفيه تأديب لهم وتربيةٌ على ذلك ..
ـ
والعدل والإنصاف في نظرة المعلّم إلى العلوم ، وفي موقفه من الآراء ، ومن يختلف معهم في الرأي ، ويخالفهم في الاجتهاد ..
فيه دليل على اتّزان شخصيّته ، وتأدّبه بأدب العلم ، وسمات أهل الفضل .
16
ـ ومن أهمّ آداب المعلّم : أن يحاسب نفسه بين الحين والآخر ، على أقواله وأفعاله ،
ومواقفه وتصرّفاته ، ويزن نفسه بميزان دقيق في كلّ ما يصدر عنه ، ليكون في رقيّ
دائم ، وتقدّم مستمرّ ..
هذه
أهمّ آداب المعلّم ، وأجمع صفاته ، وهي مقدّمة لما وراءها ، ودليل على سواها ..
ـ
قال الجاحظ يوصي طالب العلم المعلّم في بعض أقواله الجامعة : " .. وهب
الله لك حسن الاستماع ، وأشعر قلبك حبّ التثبّت ، وجعل أحسن الأمور في عينيك
وأحلاها في صدرك ، وأبقاها أثراً عليك في دينِك ودنياك : علماً تفيدُه ، وضالاًّ
ترشدُه ، وباباً مِن الخير تفتحُه ، وأعاذك من التكلّفِ ، وعصمك مِن التلوّنِ ،
وبغّض إليك اللجاجَ ، وكرّه إليك الاستبدادَ ، ونزّهكَ عن الفُضولِ ، وعرّفك سوءَ
عاقبةِ المراء ، ولا أعلم الموصوف بالاستبداد إلاّ مجهّلاً مذموماً .
" فاجعل محاسبة
نفسِك صناعةً تعتقدُها ، وتفقّدَ حالاتِك عقدةً ترجعُ إليها ، حتّى تخرجَ أفعالُك
مقسومةً محصّلةً ، وألفاظُك موزونةً معدّلةً ، ومعانيك مصفّاةً مهذّبةً ، ومخارِجَ
أمورِك مقبولةً محبّبةً ، فمتى كنتَ كذلكَ ،
كانت رقّتُك على الجاهلِ الغبيّ ،
بقدرِ غلظتِك على المعانِدِ الذكيّ ، وتحبّ الجماعةَ بقدرِ بُغضِك للفرقةِ
، وترغَبُ في الاستخارةِ والاستشارةِ بقدرِ زهدِكَ في الاستبدادِ واللجاجةِ ،
وتبدأُ مِن العلمِ بما لا يَسَعُ جهلُه قبلَ التطوّعِ بما يسعُ جهلُه ..
"
ولا تلتمسِ الفُروعَ إلاّ بعدَ إحكامِ الأُصُولِ ، ولا تنظُر في الطُّرَفِ
والغرائِبِ وتؤثِر روايةَ الملَحِ والنوادِرِ ، وكلّ ما خفّ على قُلوب الفُرّاغ ،
وراقَ أسماعَ الأغمارِ .
سُئل
بعضُ العلماء عن بعض أهل البلدان ، فقال : أبحثُ الناسِ عن صغيرٍ ، وأتركُهم
لكبيرٍ .
وسُئل
عن بعض الفقهاء ، فقال : " أعلمُ الناسِ بما لم يكن ، وأجهلُهم بما كان
" .
وقيل
لبعض العلماء : مَن أسوأُ الناسِ حالاً ؟ قال : " مَن لا يثقُ بأحدٍ لسُوءِ ظنّه
، ولا يثقُ به أحدٌ لسُوءِ فعلِه " .
*
من كلام الجاحظ في كتاب " البرصان والعرجان والعميان والحولان
" ص /3/ .
المبحث الثاني
أهمّ آدابِ
المُتعلّم
1 ـ حسن النية ، وسلامة القصد ، فإنما
الأعمالُ بالنيّاتِ ، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى ، وينبغي أن يكون هدف المتعلّم
وغايته نيل ثواب الله تعالى ومرضاته ، ونفع الأمّة الأسلاميّة التي ينتمي إليها ،
ورفعة الإسلام وإعزاز كلمته ، وأن يتطهّر من أعراض الدنيا ، ومقاصدها الدنيّة ،
ليسدّد الله تعالى خطاه ، ويفتح عليه ، وينفع العباد به ..
2 ـ أن ينوي بطلب العلم الامتثال
والعمل ، وألاّ يطلب بتعلّمه الصيت بين الناس ، وحسن الذكر ، والتقدّم على الأقران
، والرفعة في المجالس ، فإنّ مِن أوّل الناس الذين يُقضى فيهم يوم القيامة : رجل
تعلّم العلم ، وعلّمه ، ولم يعمل به ، ولم يخلص لله في تعلّمه وتعليمه ، فيكبّه
الله تعالى في النار ..
ففي الحديث الصحيح : ( إِنَّ
أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ..
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ ،
فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ :
تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ :
كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ
الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ
عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ .. ) .
* رواه مسلم /3527/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
فينبغي أن يكون هذا الحديث
المخيف نُصب عيني طالبِ العَلم ، كيلا يتردّى في مهاوِي فتنة السمعة والرياء ،
وابْتغاء أعراض الدُّنيا الفانية بعلمه ، أعاذنا الله منْ شرّ ذلك وعَقابيله بمنّه
وكرمه .
وفي الأثر عن جابر t مرفوعاً : " لا تَعلّموا العلم
لتباهوا به العلماء ، ولا لتماروا به السفهاء ، ولا لتجتازوا به المجالس ، فمن فعل
ذلك : فالنار النار " .
ـ ومن وصايا لقمان لابنه
: " يابني ! لا تتعلّم العلم لثلاث ، ولا تدعه لثلاث ، لا تتعلّمه لتماري به
، ولا لتباهي به ، ولا لترائي به ، ولا تدعه زهادة فيه ، ولا حياء من الناس ، ولا
رضىً بالجهالة .. "
3
ـ التأدّب مع العالم ، والتملّق له ، وشدّة الرغبة فيما عنده ، والصدق في الطلب ،
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " ذللتُ طالباً ، فعززتُ مطلوباً "
.
ـ
وقال بعض الحكماء : " من لم يحتمل ذلّ التعلّم ساعة ، بقي في ذلّ الجهل أبداً
" .
4
ـ ومن آداب المتعلّم : الصبر على معاناة العلم ، والدأب في تحصيله ، فلا ينال
العلم إلاّ بنهم لا يقف عند حدّ ، وهمّة لا تعرف الفتور ، ومن طلب العلى سهر
الليالي .
ـ
وإنّ من أظهر العلل التي نشكوها في كثير من طلاب العلم اليوم : التشهّي في طلب
العلم ، فتراه يقبل برغبة جامحة أيّاماً معدودات ، أو شهوراً قليلةً ، وكأنّه يريد
أن يحوز العلم كما يحوز الإنسان بضاعة بماله ، ويتطلّب من مشايخه أو معلّميه كثرة
الدروس ومضاعفة الجهود معه ، وحاله لا يستوعب ما يتطلّب ، ثمّ يرى الطريق أمامه
طويلاً ، فتفتر همّته ، وتتراخى عزيمته ، ثمّ ينقطع كأن لم يدخل هذا الباب ، ولم
يعرفه ..
ـ وقد سُئِلَ رسول الله e : ( أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ
؟ قَالَ : أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ، وَقَالَ : ( اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا
تُطِيقُونَ ، فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا ) * .
*رواه البخاريّ /5984/ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا .
ـ وفي الحديث : ( إنّ هذا
الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإنّ المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع ) *
.
*
رواه البزّار عن جابر رضي الله عنه كما في كشف الخفاء 1/300/ .
5 ـ ومن آداب المتعلّم : أن
يقطع العلائق الشاغلة عن تحصيل العلم ، أو يتقلّل منها ما استطاع ، فإنّ الفكرة
إذا توزعت بين عدة أمور قصرت عن إدراك الحقائق ، وكَلّ صاحبها عن النبوغ في العلوم
..
ـ وقد روي
عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنّه قال : " لو كُلّفنا بصلة ، لما
تعلمنا مسألة .. " .
ـ وقد كان
السلف يؤثرون العلم على كلّ شئ .
ـ ومن أخطر
العوائق القاطعة عن العلم : ابتغاء عرض الدنيا فيما يطلب من
العلم ، والإصرار على المعاصي والمحرمات التي تذهب بنور العلم وبهائه ، وتحرم طالب
العلم من خير كثير ، وتحجبه عن تفرغ القلب والعقل لإدراك العلوم وتحصيلها .
ـ وقد بين
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى خطر المعاصي على طالب العلم ببيتين من الشعر ،
طارا بين طلبة العلم مثلاً ، ولكن أين نحن منهما .؟! يقول رحمه الله :
شكوتُ إلى
وكيعٍ سوءَ حِفظي فأرشدَنِي إلى
تركِ المعاصِي
وأخبرني بأنّ
العلمَ نُورٌ ونُورُ اللهِ ، لا يُهدَى لِعَاصِي
6 ـ ومن آداب المتعلّم : أن يتحقّق بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن
، امتثالاً لأوامر الله واجتناباً لنواهيه ، فتقوى الله سبحانه : خير أسباب توفيق
الله وفضله ، وفتحه على عباده في الفهم والعلم .
ـ فالعلم
والتعليم فتح من الله سبحانه وتوفيق ، فليكثر الطالب من سؤال الله ودعائه أن يفتح
عليه بالعلم النافع ، ويوفّقه للعمل الصالح ، ويفهّمه ما استغلق عليه من العلوم ،
وأن يزيده علماً وفهماً .
ـ وإنّ خير
أسباب الفتح والتوفيق والمزيد : أن يتواضع لله تعالى ، ويستشعر فضل الله عليه فيما
يعلم .
7 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يسأل عما لا يعلم ، مما ينفعه علمه ، ولا يستحيي من السؤال ،
فلن ينال العلم مستكبرٌ ولا مستحٍ .. ولا ينبغي أن يسأل إحراجاً ولا إعناتاً ، وأن
يحسن السؤال ، ويفكّر فيما يسأل قبل أن يسأل ، فالسؤال مفتاح العلم ، ودليل العقل
.
ـ وقد قيل
لابن عباس رضي الله عنهما : " بمَ نلت هذا العلم ؟ قال : بلسانٍ سئُولٍ ،
وقلبٍ عقُول " .
ـ وروي في
الحديث الشريف : " إنّما شفاءُ العِيّ السؤالُ " * .
*
رواه ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه أحمد والدارمي و الدارقطني
، وفيه قصّة كما في كشف الخفاء 1/247/ .
ـ وفي
الأثر : " حسن السؤال نصف العلم " .
ـ وينبغي
أن لا يسأل إلاّ استرشاداً وتعلّماً ، ولا يكثر الأسئلة ، ولا يعترض على معلّمه
أمام طلابه إلاّ إذا أخطأ في كتاب الله تعالى ، أو أمر من الدين ظاهر .. ولكنّه لا
يخرج باعتراضه عن الأدب بحال .
8 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يعرف للمعلّم عظيم حقّه ، وفضل علمه ، ويشكر له جميل فعله .
ـ وقد رجّح
كثير من الحكماء حقّ العالم على حقّ الوالد ، حتّى قال بعضهم :
مَن علّم الناسَ كانَ خيرَ أبٍ ذاك أبو الروحِ لا أبُو الجيف
وذلك لأن
حياة الروح بالعلم ، وحياة الجسد بالروح ، فالعلم مادّة الروح الإنسانيّ ، كما أن
النطفة مادّة الجسد والروح الحيوانيّ .. والروح الإنسانيّ أفضل الأرواح ، فمن ثمّ
كان المعلّم خير الآباء ..
ـ وقال الشاعر :
إنّ المُعلّمَ
والطبيبَ كلاهُما لا ينصحان إذا
هُما لم يُكرَما
فاصبر لدائكِ إن أهنتَ
طَبيبَه واصبر لجهلِكَ
إن جَفوتَ مُعلّما
ـ فمن
حقّ المعلّم :
إذا ماشيته
أن تقدّمه عليك في الدخول والخروج ، وإذا التقيته فأعطه حقّه من السلام والاحترام
، وإذا اشتركت معه في حديثٍ فمكّنه من الكلام قبلك ، واستمع إليه بإصغاء وإجلال ، ولا ترفع صوتك في حضرته ،
وإذا سُئلت عنْ مسألةٍ بين يديه فحوّل السائل إليه .. وإذا كان في الحديث ما يدعو
إلى المناقشة فناقشه بأدبٍ وسَكينةٍ ولُطف ، وغُضّ مِن صوتك في حديثك إليه ، وإذا
خاطبته أو ناديته ، فلا تنس تكريمه في الخطاب والنداء ، ونَاده بأحبّ الأسماءِ
إليه ، وأكرمِ الألقَاب والصفَات ، وصُن سُمعته ، واحفظ غَيبته .. ويتوجّب عليك
هذا الحقّ كلّه لمن كان أكبر منك سنّاً ..
ـ ففي الحديث الشريف عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : ( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا
، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ ) * .
* رواه أحمَد /21693/ .
9 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يحرص على الفائدة والحكمة ، فهي ضالّة المؤمن ، أينما وجدها
التقطها ، وهو أحقّ بها ، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : ( الكَلِمَةُ الحكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ ، فَحَيْثُ
وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ) * .
* رواه الترمذيّ /2611/ وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ
إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
10 ـ ومن
أهمّ آداب المتعلّم : أن يحرص على العلم النافع ، ويبتعد عن العلوم الضارّة وفضول
العلم ، ومسائل الاختلاف في مبدأ أمره بخاصّة ، فإن ذلك يحّير عقله ، ويشتّت ذهنه
، ويشغله عما هو أهمّ له وأولى ..
وهل أهلك البشريّة اليوم إلاّ العلوم الضارّة التي اتّخذها المفسدون
في الأرض وسائل للتدمير والقتل ، والبغي على عباد الله والطغيانِ ، وسفك الدمَاء
والإفْساد لموارد الحياة .!؟
ـ ثمّ
ينبغي له أن يأخذ من كلّ شئ أحسنه ، لأنّ العمر لا يتسع لتحصيل جميع العلوم
واستقصائها ، وليحرص دائماً على الاستزادة من أشرف العلوم وأجلّها ، وهي ما يتعلّق
بالآخرة ، التي عليها مدار السعادة والفلاح ، وكلّ ما يزيد المؤمن قرباً من الله
تعالى ، واستقامةً عَلى دِيْنه ومَنْهجه ..
11 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يقتدي بمعلّمه في جميل أخلاقه ، ويتشبّه به في صالح أفعاله
وأحواله ، ويحرص على نصحه ، ويستجيب لتوجيهه ، وينبغي أن يلتمس لمعلّمه العذر ما
أمكن إن اطّلع على بعض أخطائه أو تقصيره ، فلعلّ له عذراً وأنت تلومُ ..
ـ ومن كلام
ابن سيرين رحمه الله : " إنّ هذا العلم دِينٌ ، فانظُرُوا عمّن تأخُذُون
دِينكم " .
*
رواه مسلم في مقدّمة صحيحه .
12 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يغتنم أوقاته وينظّمها ، ويحرص على ملئها بالنافع المفيد ،
ويحذر من ضياع الأوقات ، أو صحبة الفارغين البطّالين ..
فما ضيّع
طالبَ العلم وأفسد عليه شأنه مِثلُ قتلِ الأوقات في غير فائدة ، والتفريطِ بها
بغير حسابٍ ، وصُحبةِ البطّالين الذين يزيّنون له ذلك ، ويغرونه به ..
وإنّ من
أهمّ أسس التربية الإسلاميّة وأصولها : التربية على حفظ الأوقات ورعايتها ، وإعطاء
كلّ وقت حقّه من الجِدّ وفعل الخير ..
وإنّ خير
ما يعين طالب العلم على ذلك مطالعة سير السلفِ الصالح في هذا الشأن ، والحرص على
الاقتداء بهم فيما كانوا عليه من الجِدّ والاجتهاد في استثمار أوقاتهم ، والانتفاع
بهَا على أحسن وجه ، وقد أتوا في هذا البابِ بالعجب العجاب * .
*
أنصح كلّ طالب علم أن يقرأ ما جمعه من ذلك أستاذنا العلاّمة الشيخ عبد
الفتّاح أبو غدّة رحمه الله في كتابيه : " قيمة الزمن عند العلماء " و " صفحات من صبر
العلماء " وما كتبه الدكتور العلاّمة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه : "
الوقت في حياة المسلم " .
13 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يحرص على حسن العلاقة مع إخوانه المتعلّمين وسموّها ، ويبذل
النصح لهم ، ويكفّ الأذى عنهم ، وينافسهم في طلب العلم ، والجدّ والاجتهاد ،
ويتواضع لهم ، ويكون لين الجانب معهم .
14 ـ ومن آداب المتعلّم أيضاً : حسن السمت والوقار ، والاعتناء
بالنظافة وجمال المظهر ، والبعد عن كل ما يُنفّر أو يُستقبَح ، ومراعاة الآداب
العامة ، كآداب الطريق ، وآداب الزيارة والضيافة ، وآداب الأخوّة والحقوق
الاجتماعية *..
* وقد جمع أستاذنا العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمه الله في
رسالته : " من أدب الإسلام " أهمّ هذه الآداب بصورة نافعة ممتعة .
ـ ففي الحديث الشريف : ( إِنَّكُمْ
قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا
لِبَاسَكُمْ ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ ، فَإِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ ) * .
* رواه أبو داود /3566/ عن أبي خريم الأسدي
t ، وأحمد في المسند .
ـ وفي الحديث أيضاً : ( إِنَّ
اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ..
) * .
*
جزء من حديث رواه مسلم /131/ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ t ، ورواه الترمذيّ /1922/ وأحمد في المسند .
ـ وفي الحديث أيضاً : ( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ
، فَقَالُوا : مَا لَنَا بُدٌّ ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ،
قَالَ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاّ الْمَجَالِسَ ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا
، قَالُوا : وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ .؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأذَى
، وَرَدُّ السَّلامِ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ )
* .
* رواه مسلم /2285/ و /2121/ و /4021/ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t ، ورواه أبو داود /4181/ وأحمد .
15 ـ ومن
آداب المتعلّم : أن يبتعد عن الخصام والجدال ، والمراء وكثرة القيل والقال ، وليعلم
أنّ ذلك يوغر الصدور ، ويذهب ببركة العلم وبهائه ، ويحرمه من فتح الله عليه
وتوفيقه ، ويكون علمه بذلك حجّة عليه يوم القيامة وسبباً لهلاكه ..
وأخيراً ؛ ففي تراثنا
التربويّ ذخيرة فكريّة عظيمة ، وتفصيل دقيق من أئمّة الإسلام لما ينبغي أن يكون
عليه طالب العلم مع أستاذه وشيخه من أدب جمّ ، وخلق طيّب ، وعلاقة متميّزة ، تضاهي
علاقة الأبناء بآبائهم ، بل تفوقها في كثير من الأحيان ، ومن ذلكَ ما يقوله الإمام
بدر الدين بن جماعة في تفصيل ذلك وتصويره : " وينبغي أن ينقاد التلميذ
لشيخه في أموره ، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره ، فيشاوره فيما يقصده ، ويتحرّى رضاه
فيما يعتمده ، ويبالغ في حرمته ، ويتقرّب إلى الله بخدمته ، ويعلم أنّ ذلّه لشيخه
عزّ وتواضعه له رفعة .. وأن يعرف له حقّه ، ولا ينسى فضله ، ويعظّم حرمته ، ويردّ
غيبته ، ويغضب لها " .
وفي مقابل ذلك يوضّح الإمام
ابن جماعة ما على المعلّم من مسئوليّة جسيمة في رعاية طلاّبه ، وتفقّد أحوالهم ،
والحدب عليهم كحدب الآباء على أبنائهم فيقول رحمه الله :
" وينبغي أن يعتني
بمصالح الطالب ، ويعامله بما يعامل به أعزّ أولاده مِن الحنوّ والشفقة والإحسان
إليه ، والصبر على جفاءٍ ربما وقع منه ، ونقصٍ لا يكاد يخلو الإنسان منه ، وسوء
أدب في بعض الأحيان ، ويبسط عذره بحسب الإمكان ، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه
بنصح وتلطّف ، لا بتعنيف وتعسّف ، قاصداً بذلك حسن تربيته ، وتحسين خلقه ، وإصلاح
شأنه .. " .
" وينبغي أن يتودّد
لحاضرهم ، ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء ، وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ،
ومواطنهم وأحوالهم ، ويكثر الدعاء لهم بالصلاح " .
" وينبغي أن يسعى في
مصالح الطلبة ، وجمع قلوبهم ومساعدتهم بما تيسّر عليه من جاه ومال عند قدرته على
ذلك ، فإنّ الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ، ولا سيّما إذا كان
ذلك إعانة على طلب العلم ، الذي هو أفضل القربات .. وإذا غاب بعض الطلبة أو
ملازمي الحلقة غياباً زائداً عن العادة سأل عنه ، وعن أحواله ، وعمّا يتعلّق به ،
فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه ، أو قصد منزله بنفسه ، وهو أفضل .. " .
ويقول
أَيضاً رحمه الله في بيانِ مثوبة العالم المعلّم عند الله ، وما له من عظيم الأجر
: " واعلم أنّ الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعزّ
الناس عليه ، وأقرب أهله إليه ، ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون
شباك الاجتهاد لصيد طالب علم ينتفع الناس به في حياتهم ، ومن بعدهم ، ولو لم يكن
للعالم إلاّ طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب
عند الله تعالى ، فإنه لا يتّصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلاّ كان له نصيب
من الأجر .. " .
ويعدّد
الإمام الغزاليّ رحمه الله صفات المعلّم المربّي فيقول : " أن يكون
المعلّم عاملاً بعلمه ، فلا يكذّب قوله فعله ، لأن العلم يدرك بالبصائر ، والعمل
يدرك بالأبصار ، وأرباب الأبصار أكثر ، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد ، وكلّ من
تناول شيئاً وقال للناس : " لا تتناولوه فإنه سمّ مهلك " سخر الناس به ،
واتّهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه " .
ويستعرض الأسلوب الأمثل
لتقويم الناشئ وتهذيبه فيقول : " أن يزجر المتعلّم عن سوء الأخلاق بطريق
التعريض ما أمكن ، ولا يصرّح ، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ ، فإن التصريح يهتك
الهيبة ، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ، ويهيج الحرص على الإصرار " .
" وإذا رأى المعلّمُ من
أحد طلبته مكروهاً ، ولحظ في سلوكه اعوجاجاً ، فلا يصرّح له بذلك مباشرة ، بل يعرض
له في سياق كلامه مع الطلبة جميعاً ، كاشفاً عن وجه المذمّة في المكروه إجمالاً ،
فتحصل بذلك الفائدةُ المنشودة " .
ويقول الإمام الغزاليّ أيضاً
: " إنّ التعليمَ يقع أوّلاً عن طريقِ الحسّ ، ثمّ بالتفكير والقياس ،
وأخيراً بالحدس ، فالإنسان إذا تعلّم وارتاض بالعلم أصبح يفكّر فيما تعلّمه ،
وانفتح له باب الغيب " .
وينصح الإمام ابن الجوزيّ
رحمه الله ولده بمعان نفيسة ممّا أفاض الله على قلبه من الحكمة فيقول : "
واعلم يا بنيّ أنّ الأيام تبسط ساعات ، والساعات تبسط أنفاساً ، وكلّ نفسٍ خزانة ،
فاحذر أن تذهب نفساً في غير شيءٍ ، فترى يوم القيامة خزانة فارغةً فتندم ..
" وفي
الحديث : ( من قال : سبحان الله وبحمده ، غُرست له نخلة في الجنّة ) [
الترمذيّ : 3464] ، فانظر إلى مضيّع الساعَاتِ كم يفوته من النخل .؟! " .
"
فانتبه يا بنيّ لنفسك ، واندم على ما مضى من تفريطك ، واجتهد في لحاق الكاملين ما
دام في الوقت سعة ، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبةٌ ، واذكر ساعاتك التي ضاعت ، فكفى
بها عظةٌ ، ذهبت لذّة الكسل فيها ، وفاتت مراتب الفضائل ، وقد كان السلف رحمهم
الله يحبّون جمع كلّ فضيلة ، ويبكون على فوات واحدة منها " .
ويقول رحمه
الله : " .. ولا تشتغل بعلم حتّى تحكم ما قبله ، وتلمّح سير الكاملين في
العلم والعمل ، ولا تقنع بالدون ، فقد قال الشاعر :
ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام
"
واعلم أنّ العلم يرفع الأراذل ، فقد كان خلقٌ كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر ،
ولا صورة تستحسن ، وكان عطاء بن أبي رباح أسود اللون ، ومستوحش الخلقة ، وجاء إليه
سليمان بن عبد الملك ، وهو خليفة ومعه ولداه ، فجلسوا يسألونه عن المناسك ،
فحدّثهم ، وهو معرضٌ عنهم ، فقال سليمان الخليفة لولديه : قوما ، ولا تنيا ، ولا
تكاسلا في طلب العلم ، فما أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود ! " .
"
وكان الحسن البصريّ مولىً ـ مملوكاً ـ وابن سيرين ، ومكحول ، وخلق كثير ، وإنما شرفوا
بالعلم والتقوى " .
وذخائر
السلف في الفكر التربويّ كثيرة متنوّعة ، شاملة محيطة ، لا يمكن أن تجمع في كلمات
عابرة ، وإنما تصلح أن تكون منها دراسة علميَّة متخصّصة ، تجمع شواردها ونوادرها ،
وتستقصي حقائقها ، ولكن حسبنا ما ذكرنا هَا هنا ، من هذه النبذة المختصرة ، والله
يتولاّنا برحمته وهداه .
المبحث الثالث
آداب
المناقشات العلميّة
العقول والأفهام منح إلهيّة ، قضت حكمة الله تبارك وتعالى أن تتفاوت
وتتفاضل ، كما قضت حكمة الله سبحانه وتعالى بهذا التفاوت والتفاضل في كلّ نعمه
وآلائه ، ومنحه وهباته .. .
وقد يقع بسبب هذا التفاوت بين الأفراد والجماعات خلاف ، ولكن يجب أن
يكون الباعث إليه الإخلاص ، وأن تكون غاية الجميع طلب الحقّ ، وطالب الحقّ يسعى
وراء الحقّ ، ويدور معه حيث دار ، سواء أظهر على لسانه أم لسان غيره ..
أمّا العناد والمكابرة ، ومدافعة الحقّ إذا ظهر ، والتعصّب للآراء أو
الأشخاص فكلّ ذلك من أمراض القلوب ، ورعونات النفوس ، وهي مما ينبغي أن يربأ عنها
العاقل ، فضلاً عن المسلم التقيّ المستقيم ..
وقد اختلف الصحابة y ، وتناظروا في كثير من مسائل العلم ، ولكن غرض
الجميع كان طلب الحق ، ومعرفة وجهه ..
ويختلف الناس في كلّ عصر ، وتقع بينهم مناظرات في أمور ، ينظر إليها
فريق من جانب ، وفريق من جانب آخر .. وقد تعلو الآراء وتسفُل ، وتقوى وتضعف ،
وتمتدّ وتقصُر ، وتبعد وتقرب ..
والمناظرات محكّ عقول الرجال ، وبها يتوصّل الباحثون المخلصون إلى
الحقّ المنشود ، إذا راعى الناس آدابها ، والتزموا بقواعدها وأصولها ، ومن أهمّ
آدابها :
1 ـ أن يترك المتناظرون
كلّ رغبة في الغلبة والانتصار على مناظريهم ، لأنّ ذلك ينافي الإخلاص في
طلب الحقّ المنشود من جهة ، ويوغر الصدور بالعداوة ، ويزرع فيها الضغائن والأحقاد
، ويدفع المناظر الآخر إلى العناد والمكابرة من جهة أخرى ..
كان الشافعي رحمه الله تعالى يقول : " ما ناظرني أحد ، إلاّ
وأحببت أن يظهَرَ الحقّ على لسانه أو لساني .. " .
2 ـ أن يتركوا التعالي والتغالي ، والدعاوي
الباطلة في الثناء على أنفسهم وآرائهم ، أو آراء من ينتصرون لهم ، ويدَعُوا
انتقاص آراء مخالفيهم ، والحطّ منها ، والإزراء عليها ..
3 ـ وأن
يدَعُوا التعالم والتفاصح على الناس ، فإنّ ذلك مما يبعث الكراهية والمقت عند
الله تعالى ، وعند الناس .. ويُصمّ آذان الناس عن سماع الحقّ المنشود ، ويصرف
القلوب عن قبوله ..
4 ـ وأن
يحذروا أن تنقلب المناظرة إلى مراء وجدال ، فإنّ الجدال والمراء لا يأتيان
بخير ، ولا يوصلان إلى الحقّ ..
ففي الحديث الشريف : ( ما ضَلّ
قَومٌ بعدَ هُدَىً كانُوا عَليهِ إلاّ أُوتُوا الجدَلَ ) * .
* رواه الترمذيّ /3176/ عن أَبِي
أُمَامَةَ t ، وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجة في المقدّمة /47/ والحاكم وصحّحه ،
وأحمد في مسنده .
وفي الحديث أيضاً : ( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ
الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي
وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ ، وَإِنْ كَانَ مَازِحاً ، وَبِبَيْتٍ
فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ ) * .
* رواه أبو داود /4167/ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ t ، والترمذي وابن ماجة وأحمد بألفاظ مقاربة .
5 ـ وأن يحذروا من رفع الأصوات ، وتوجيه الكلام غير اللائق ،
وتحويل المناقشة العلميّة إلى اتّهام النيّات ، وتجريح الأشخاص أو الهيئات ..
وإنّ حلية أهل العلم والفضل : السكينة والوقار ، والبعد عن اللغو ،
وكثرة القيل والقال ..
6 ـ وأن يتيح المناقش الفرصة الكافية للطرف الآخر ، للتعبير
عن رأيه ، والتدليل عنه ، وأن يصغى إليه ، ولا يقاطعه في حديثه حتّى ينتهي ..
ويجتهد في تفهّم وجهة نظره ، والتعرّف على أدلّته ، أو الشبهات التي يستند إليها
في قوله ..
7 ـ وأن يتحلّى بالموضوعيّة
التامّة في نقد الآراء والأفكار ، بعيداً عن العاطفيّة والانفعال وردود الفعل
. وأن يفصل بين الرأي وقائله ، إذ إنّ أكثر الناس يحدّدون مواقفهم من الآراء
والأفكار ، تبعاً لمواقفهم ممّن يحملها أو ينادي بها . فكم من كلمة حقّ هجرت ،
لأنّ قائلها مغمور بين الناس .! وكم من كلمة باطل قُبلت ، لأن قائلها
ذو جاه ورئاسة .!
وقد روي عن عليّ t أنّه قال : " اعرِفِ الرجالَ بالحقّ ،
ولا تَعرفِ الحقَّ بالرجالِ " .
ـ وفي رواية رويت من كلام عمر t : " اعرف الحقّ تعرف أهله " .
هذه أهمّ آداب المناقشات العلمية ، إذا تحقّق بها المتناظرون ، أثمرت
مناظرتهم تفهّم وجهات نظر بعضهم بعضاً ، وانكسرت حدّة الخلافات ، وزالت أسباب سوء
الفهم أو سوء الظنّ ، واتّسعت مدارك كلّ فريق .. وأمكن التقاء الجميع ، وتفاهمهم
في دائرة الأمور المتفق عليها ، المسلّم بها .. والله الموفّق والهادي إلى سواء
السبيل .
الخاتمة .. ونسأل الله تعالى حسنها
وختاماً
، فإنّ المحور الذي تدور حوله رسالة المعلّم ، وتصدر عنه آداب العالم والمتعلّم ،
أن يكون حملة العلم قدوة حسنة ، وأسوة صالحة لمن يُعلّمونهم ، يرون من أخلاقهم
وسلوكهم ، وسمتهم وأدبهم ، وكلامهم ومواقفهم ، ما يطبع في نفوسهم أزكى الصفات ،
ويحبّب إليهم الحقّ ، ويزيّنه في قلوبهم ، فلا تزال نبتته تنمو وتزهر ، وتُؤتي
أُكلها كلّ حين بإذن ربها ، فلا تستطيع شوائب الفساد والانحراف ، أن تدخل القلوب ،
أو تعشّش حولها .
وإن المعلّم الذي يهدم بفعله ما يبني بقوله ، فإنّ أوّل ما يهدم من
قلوب أبنائه ثقتهم به ، فلا ينظرون إليه أنّه الأسوة الحسنة لهم ، والقدوة المحببة
، وهذا ما يحدث الانفصام في حياتهم بين العلم والعمل ، والقول والسلوك ، وينبت
خلائق التصنّع والنفاق ، والكذب
الاجتماعيّ ، وتلك من أهمّ أسباب بوار الأمم وهلاكها .. وهذا ما يترك أيضاً المجال
الواسع ، والمرتع الخصب ، لشياطين الإنس والجنّ : أن تستولي على القلوب ،
وتستهويها ، وتصدّ الناس عن سبيل الله ، وصراطه المستقيم ..
وإنّ من أعظم أسباب خلود
رسالة الإسلام ، خلود شخصية رسول الله e وعصمته ، وقد جعله الله تعالى الأسوة الحسنة
للمؤمنين .
وشهد له أعظم شهادة فقال
سبحانه : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم/4
.
لقد جمع الله تعالى لهذه الأمة بين
حفظ القرآن الكريم ، وهو الوحي المنزّل ، والمنهج المكتوب ، وبين حفظ المنهج
العمليّ ، المتمثل في سيرة النبيّ المعصوم ، صلوات الله وسلامه عليه ، وسنّته
النبويّة المطهّرة .. فكانت بذلك
الأمّةَ الخاتمةَ بحقّ ، حاملةَ رسالة العلم والتعليم ، والريادة للأمم والشهادة
على الناس ..
اللهمّ إنّا نسألُك عِلماً نافِعاً
، وقلباً خاشِعاً ، ورِزقاً حَلالاً واسِعاً ، وعمَلاً مُتقبّلاً ، وَشِفاءً مِن
كُلِّ داء ، ونَسألُكَ اللهمّ حُبَّكَ ، وحبّ مَن يحبُّكَ ، وحُبّ العمل الذي
يُقرّبُنا إلى حُبّك . ونَسألُكَ العمَلَ بكتابِك ، والاتباعَ لسنّة نبيّكَ
سيّدِنا محمّدٍ e ، في الأقوالِ والأفعالِ والأخلاقِ والأحوالِ
والآداب .
اللهمّ علّمنا ما ينفعُنا ،
وانفَعنا بما علّمتَنا ، وزِدنا عِلماً وعمَلاً وفِقهاً في الدينِ ، وسلامٌ على
المرسلينَ ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ .
وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد الطاهر الزكيّ
، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله ربّ العالمين
نداء ورسالة إلى كلّ معلّم
ومعلّمة !
أيّها
المعلّمون ! طوبى لكم هذه المهنة ، مهنة الأنبياء والمرسلين .. وهنيئاً لكم هذا
الشرف ، شرف تربية النفوس وبناء العقول .. إنّها تجمع لكم بين أجري الدنيا والآخرة
.. فارفعوا هممكم عن الوقوف عند عرض الدنيا الزائل ..
ـ اخدموا
هذه المهنة الشريفة ؛ برفع مستواكم العلميّ والتربويّ ، والتقاط الحكمة حيث كانت ،
ومواكبة وسائل العصر ومستجدّاته ، إذ كيف يرجى العطاء المتميّز من جاهل بزمانه ،
أو مجافٍ له ، ومُتخلّف عن عصره غير بصيرٍ به .؟!
وها هي ذي
الأسر ، تلقي إليكم كلّ يوم بفلذات أكبادها ، والمجتمع يلقي إليكم ببراعم أكمامه ،
ويضع بين أيديكم أمانة غالية ، ويحمّلكم مسئوليّة عظيمة .. وأمّتكم تعلّق على
جهادكم الآمال العريضة ..
ـ إنّ الآمال
التي يعقدها الأباء والأمّهات على أبنائهم ، أنتم السبيل إلى تحقيقها ، وإنّ قلوبَ
أهل الأرض تتطلّع إلى جهدكم وجهادكم ، وملائكةَ السماء تحفّكم وترعاكم ، والله سبحانه وتعالى يرى عملكم ، ويشهد
قيامكم بحقّ هذه الأمانة ، أو تفريطكم فيها
..
ـ لقد بوّأكم
الله تبارك وتعالى مقاماً عظيماً ، اختصّ به ذاته العليّة ، وجعله أشرف مهمّات
رسله الكرام.. فأخلصوا لله نيّاتكم ، واحتسبوا عند الله عملكم وجهادكم ، وقدّروا
شرف المهمّة ، وعظم الأمانة ، وجليل المسئوليّة ، واعلموا أنّه لن يقدر أحد جهادكم
حقّ قدره سوى خالقكم الذي يعلم السرّ وأخفى ، فعلّقوا قلوبكم بالله U ، وابتغوا مرضاته في كلّ شأن ..
واعلموا ـ
أيّها المعلّمون ـ أنّكم تضعون بصماتكم على شخصيّة أبناء الأمّة ، وقلوبهم وعقولهم
وسلوكهم .. فانظروا أيّ البصمات تضعون ؟ وتتركون في قلوبهم ، وعلى ألسنتهم الذكرى
.. فأيّ ذكرى تتركون ..؟!
إنّ نهضة
التعليم أنتم روّادها ، وأمدادها ، فقوّموا أنفسكم من خلال ثمراتكم وآثاركم ..
وإنّ مفخرة سلفنا كانت بأساتذتهم وتلاميذهم على حدّ سواء .. فكم من تلميذ رفع
أستاذه ، وفاقه ! وأعلى قدره وخلّد ذكره
.!
وكم كان
للأساتذة والشيوخ والأئمّة في هذه الأمة من أثر جليل في بناء الرجال ، وتخريج
القادة ، وصنع الأبطال الفاتحين ، وصياغة الحضارة الإسلاميّة المشرقة الزاهرة في
كلّ جانب من جوانبها ..!
أيّها
المعلّمون ! لا تنسوا أنّ هذه المدارس والمعاهد تزدان بكم وتزهر ، وأنتم تزدانون
بنور قلوبكم ، وصفاء نيّاتكم ، وسلامة قصدكم ، واجتهادكم في البذل والعطاء ،
وسلوككم المتألّق القدوة ..
أنتم
مصابيحُ الأمّة ، وتيارُها نبضُ قلوبكم ، وقوّة يقينكم ، وحماستكم للخير الفيّاضة
..
فأيّ فلاح
للأمّة .؟ إن احترقت مصابيحها ، أو تقطّعت خطوط تيارها ، أو همدت حرارة دمها ؟!
وكيف ترجى
لها نهضة ورقيّ ، ومنافسة لأمم الأرض ؟! إن خفتت فيها المصابيح .. وتلاشت في
جنباتها الأنوار ؟!
أيّها
المعلّمون ! سيذهب الجهد والتعب ، وتبقى الآثار والثمرات ، والأجر والمثوبة ،
فانظروا ببصائركم إلى الآثار والثمرات ، ومثوبة الآخرة تنس أجسادكم التعب الحاضر ،
والمشقّات العارضة ..
أهمّ
المراجع
1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم للأستاذ محمد فؤاد عبد
الباقي .
3 ـ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف ـ مجموعة من المستشرقين .
4 ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني .
5 ـ شرح النووي على صحيح
مسلم .
6 ـ سنن الترمذي .
7 ـ سنن أبي داود .
8 ـ سنن النسائي .
9 ـ سنن ابن ماجه .
10 ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل .
12 ـ فهرس مسند الإمام أحمد ترتيب أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني
زغلول .
13 ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير .
14 ـ رياض الصالحين ـ للإمام النووي ـ تحقيق رباح والدقاق .
15 ـ الترغيب والترهيب للحافظ المنذري .
16 ـ إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد محمّد الغزالي .
17 ـ أدب الدنيا والدين ، للإمام الماوردي .
18 ـ تذكرة السامع والمتكلّم في آداب العالم والمتعلّم للإمام بدر
الدين بن جماعة .
19 ـ الدعوة للإسلام وأركانها للشيخ أحمد عز الدين البيانونيّ .
20 ـ من محاسن الإسلام للشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ .
21 ـ منهاج التربية الصالحة للشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق