الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

رسالة المعلم وآداب العالم والمتعلم - 2




     ولكنّنا من خلال طبيعة عمل كلّ من المعلّم والموظف ومهمّتهما في الحياة نستطيع أن نعرّف المعلّم والموظّف على النحو التالي :

     فالمعلّم هو الذي يأتمنه الناس على تربية أولادهم ، وتأديبهم وتعليمهم ، ويتحقق بمستوى مناسب من الأهليّة لذلك ..

     وأمّا الموظّف فهو الذي يكلّف بعمل ما ، وتتحقق به الأهليّة العلميّة ، أو الفنيّة ، أو الخبرة المناسبة لهذا العمل ..

ونستخلص من التعريفين الحقائق التالية :

     1- أنّ كلاًّ من المعلّم والموظّف يتحقّق فيهما قدر مشترك من المؤهّلات العلميّة والأخلاقيّة ، والمهارات الفنيّة المناسبة لمهمّة كلّ منهما ، وطبيعة عمله واختصاصه .

     2- أن الجانب الأساسيّ في المعلّم هو المستوى العلميّ والسلوك الأخلاقيّ المناسب ، والقدرة على التعليم والعطاء ، بما ينسجم مع طبيعة المهمّة الملقاة على عاتقه ، ولا يفترض في الموظّف أن يكون كذلك كما هو واضح .

     3- أن علاقة المعلّم علاقة إنسانيّة تربويّة ، فميدان عمله : النفس البشريّة ، ومهمته صقل العقول ، وإيقاظ القلوب ، وتهذيب النفوس ، وغرس الفضائل ، واجتثاث الرذائل ، وتنشئة الطفال تنشئة قويمة سويّة .

     إنّ مهمّة المعلّم تتعلق بسيّد المخلوقات في هذا الوجود .. بالإنسان الذي خلقه الله بيديه ، وأسجد له ملائكته ، وجعله في أحسن تقويم ، وحمله ما ناءت السموات والأرض والجبال بحمله ، فشرّفه بالأمانة ، وخصّه بالتكليف ، ليكون في أرفع المنازل عند الله تعالى ، إن وفّى بعهد الله وأمانته .

     إنّنا نلقي إلى المعلّم بفلذات أكبادنا ، معادنَ وخاماتٍ ليجعل منها أدوات نفيسة القدر ، عالية الهمّة ، شريفة المهمّة ، وينقش عليها نقوش الحقّ ، التي تؤهلها لجليل المهام ، ولا تمحوها الليالي والأيّام .

     وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله تعالى : " إن الصبيّ أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة ، خالية من كلّ نقش وصورة ، وهو قابل لكلّ ما ينقش فيه ، ومائل إلى كل ما يمال إليه ، فان عُوّد الخير وعُلّمه ، نشأ عليه ، وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه في ثوابه أبواه وكلّ معلّم له ومؤدّب ، وإن عُوّد الشرّ ، وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة مُربّيه والقيّم عليه " * .
* نقلاً عن كتاب : " منهاج التربية الصالحة " ص/76/ للشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني رحمه الله .

     أمّا الموظّف ؛ فقد يكون تعامله مع آلة صمّاء فحسب ، لا صلة له بالناس مطلقاً ، وقد يكون بعيداً عن الناس يتعامل مع أوراق تصله ، ومعاملات للناس يتلقاها من موظف آخر ، فتنحصر علاقته مع الناس بعلاقته مع زملائه ورئيسه ، وقد يكون تعامله مع الناس محدّداً بلحظة عابرة ، أو كلمة محدودة ، فلا يربطه مع الناس سوى نظام  وشروط وقيود ، ولا تصله بهم إلاّ الأوراق المطلوبة ، والشروط المستوفاة .

     ولا يخفى أنّ ذلك في كثير من الأحيان إن لم يصحبه حسن الخلق ، والصبر الجميل ، والأسلوب الحكيم في العلاقة ، والطيب في التعامل ، فإنّه يورث الجفاء في العلاقة بينه وبين الناس ، لأن النفوس جُبلت على النفرة من القيود والنظام ، وإباء الانقياد والانتظام .

     ولئن كانت طبيعة عمله لا تقلّل من أهميّة أخلاقه وسلوكه ، وضرورة صبره وتحمّله ، وحسن علاقته بالناس ولطفه ، وما لذلك كلّه من أثر ، وما يتركه في نفوس المتعاملين معه من انطباع حميد ، وثناء عطر ، وتأثير طيب ، ولكنه لا يقف في ذلك كلّه موقف المعلّم للناس ، والمربّي الموجّه ..

     ونخلص من ذلك : إلى أنّ الفرق الذي نريد الحديث عنه بين المعلّم والموظّف يتجلى في طبيعة علاقة كلّ منهما بالناس ، ففي الوقت الذي تكون علاقة المعلّم مع تلاميذه علاقة أبويّة تقوم على التربية والتعليم ، والإرشاد والتوجيه ، تنحصر علاقة الموظّف بالناس في نطاق محدود، من طبيعة العمل الذي يقوم به ، والمسئولية التي يؤدّيها ، ولا يطلب منه ما فوق ذلك ، ولا يسأل عنه ..


المبحث الثالث
علاقة الناس بالمعلّم والموظّف

     لعلّ هذه النقطة تعدّ مكمّلة للنقطة السابقة ، ويتجلّى خلالها مزيد من الفروق بين المعلّم والموظّف ، ففي النقطة السابقة استجلينا طبيعة علاقة التلاميذ بالمعلّم ، وعلاقة الناس بالموظّف ..

     ونبدأ بعلاقة الناس بالموظّف .. إنّها علاقة محدودة موقوتة لا تكاد تبدأ في أكثر الأحيان إلاّ لتنتهي ، ولا تكاد تنشأ إلاّ لتنقطع ، وقد يكون فيها احتكاك وسوء تفاهم لسوء خلق  في أحد الطرفين ، أو بعد عن الحق ، فتنتهي بشكوى ، أو بجفاء كل طرف للطرف الآخر ، وتبرّمه منه ..

     أمّا علاقة التلاميذ بمعلّمهم ؛ فهي علاقة أبويّة حانية ، ممتدّة طويلة ، يقف فيها المعلّم موقف المربّي الموجّه ، ويقف فيها التلميذ موقف المتلقّي المتعلّم ، المستجيب المتأدّب ، إذ يرى معلّمه أكبر منه سنّاً وجسماً في أكثر الأحيان ، وأكثر منه علماً ، وأجلّ قدراً ، وينظر إليه نظرة الأسوة والاقتداء .. وتبعاً لذلك ؛ فإنّه يكنّ له الاحترام والتقدير ، على حسب ما تكون هذه الصفات في المعلّم أتمّ وأكمل ، وعلى حسب ما يكون المعلّم بعيداً عن الصفات السلبية ، التي تنزع احترام تلاميذه له ، فلا ينظرون إليه نظرة التأسي والاقتداء ..

     وعلى قدر ما يخلص المعلّم في عمله ، ويكون قدوة حسنة لتلاميذه ، ينظر إليه تلاميذه نظرة التقدير والاحترام ، والتأسي والاقتداء ، ويعظم انتفاعهم به واستفادتهم منه .

     ولا ننسى أن من إخلاص المعلّم في عمله أن يحرص على نصح تلاميذه وتوجيههم وإرشادهم في كل مناسبة ، وأن ينتهز كل فرصة مواتية لبثّ الفضائل في نفوسهم ، والتنفير من الرذائل ، والحثّ على معالي الأمور ، والنهي عن سفسافها ..

     وتتبع علاقة التلاميذ بالمعلّم علاقة آبائهم وإخوانهم وأولياء  أمورهم ، وهم الذين يمثّلون روابط التلميذ الأسريّة والاجتماعيّة ، وتنعكس سلبيّاتها وإيجابيّاتها على تكوين التلميذ وسلوكه وأخلاقه .

     ويلاحظ في هذا المقام أن كثيراً من أولياء الأمور ، على اختلاف دوافعهم ، يقفون من المعلّم كوقفة التلاميذ من معلّمهم .. مسترشدين مستنصحين ، يتقبّلون بصدر رحب ما يوجّه إليهم من انتقادات ، تعود إليها أسباب تقصير الطالب في دراسته ، أو إهماله في واجباته ، أو عدم تهييء الظروف المناسبة لجدّه واجتهاده .

     وهنا يبرز الدور الاجتماعيّ للمعلّم في التأثير والتوجيه أبعد من نطاق المدرسة وحدودها وأوسع ، فكلّما كان تعاون الأسرة مع المدرسة وروابطها بها أوثق كان التاثير الاجتماعيّ للمعلّم أكبر وأظهر .

     وإذ كان كثير من المعلّمين لا يجاملون أولياء الأمور ولا يدارونهم ، بل يصارحونهم ، ويتناولون تقصير الوالدين في مسئوليتهم ، ويقفونهم على نقائص التربية في بيوتهم وأدوائها ، وسلبيات تصرفاتهم على سلوك أبنائهم ، مما يحرج بعض الآباء ، وهم في كثير من الأحوال قد خرجت الأمور من أيديهم ، ولم يعودوا يستطيعون تلافي التقصير ، أو تدارك الخلل ، أو لا يريدون ذلك .. ولا يخفى أنّ من طبع الإنسان الهروب من المواقف المحرجة مما يدفعهم إلى قطيعة المدرسة ، والهرب من مراجعتها ، وتجنّب التعرف على معلمي أولادهم ، والسؤال عنهم ، فيتخلّون بذلك عن مسئوليّتهم في التربية والتقويم ، وتكميل دور المعلّم والتعاون معه .. وهذا ما تكثر الشكوى منه في مختلف مراحل التعليم بصورة عامّة .


المبحث الرابع
المُعلّم في مفهوم الإسلام

     إنّ أعظم مهمّات البعثة النبوية التي قام بها النبي e خير قيام ، هي المهمّة التي حُدِّدت أصولها المنهجيّة ، وميادينها التربويّة بقول الله تعالى : (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) الجمعة /2، وكذلك مثيلات هذه الآية الكريمة في كتاب الله تعالى * .
* ينظر ما كتبه حول هذه الآ‏‏ية الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه : " تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية ، ص /37/ فما بعد ، وقد توسع توسعاً كبيراً في تحليل مضامين هذه الآية . ومثيلات هذه الآية جاءت في سورة البقرة : /129 و 151 وآل عمران : 164/ .

فقد حددت هذه الآية الكريمة ثلاث مُهمّات كبرى للرسول e :

     1 ـ مهمة التبليغ والبيان ، وتعريف الإنسان بمصدر التلقي ومنهجه ، وربطه به ، وتوضيح علاقته بهذا المنهج ، ومسئوليّته عن السعي ضمن حدوده وإطاره .

     2 ـ مهمة التربية والتعليم والتزكية ، ويشير إليها قوله تعالى : ( ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ )   ، وتشمل التزكية : جميع الدراسات النظريّة التي تحتاجها التزكية ، وتتّصل بها ، والتطبيقات العمليّة لها ، كما تتنوّع إلى تزكية النفس ، وتزكية العقل ، وتزكية الجسم .

     وحقيقة التزكية تتلخّص في : تعزيز المرغوب فيه في السلوك الإنسانيّ ، وانتزاع غير المرغوب فيه ، وقد لخّصها علماء التربية الربّانيّين بكلمتي : " التخلية والتحلية " ، فهي عمليّة تقويم وتعـديل للسـلوك الإنسانيّ في كلّ جانب من جوانبه *  .
* المرجع السابق ص /41/ بتصرف وزيادة .

     3 ـ مهمة العمل والتطبيق والتنفيذ .

     " والحكمة لا يمكن خروجها عن معنيين هما : العلم ، وفعل الصواب ، فهي من ثمّ تنقسم إلى حكمة نظرية ، وحكمة عملية ، ولابدّ من اجتماعهما في السلوك الكامل " * .
* انظر : تفسير الإمام الرازي 2/347/ و 2/283/ في تعريف له جامع للحكمة ، وانظر : " المدخل إلى علم الدعوة " ص / 17 / ، بتصرف ، وقد اعتمدت في هذا التقسيم عليه .

     ومن أحسن وأجمع ما جاء في تعريف الحكمة قول الإمام النووي رحمه الله تعــالى : " إنّها العلم المتّصف بالإحكام ، المشتمل على المعرفة بالله تعالى ، المصحوب بنفاذ البصيرة ، وتهذيب النفس والأخلاق ، وتحقيق الحقّ والعمل به ، والصدّ عن اتِّباع الهوى الباطل ، والحكيم من له ذلك " * .
* انظر فيض القدير للمناوي ، ج 3 ص /416/ . 

     وينبغي أن يعلم أن تعليم الحكمة النبويّة يعني ألاّ يقف التعليم عند ظواهر الأمور ، فيقتصر بذلك على التلقين غير الواعي ، والاستظهار الأعجميّ ، وإنّما يربط بين الحقائق وحِكَمها وعللها ، ويستشرف التعرّف على مقدّماتها وأسبابها ، ليكون من وراء ذلك التعامل الواعي معها ، وإجراء أحكامها على أمثالها ..

     ومن ثمّ فلابدّ لنا أن نتذكّر عندما نتحدّث عن مفهوم " المعلّم " في الإسلام : أنّ التربية والتعليم ركن من أعظم أركان المهمّة التي بعث بها النبي e ، والتي حددها الله تعالى في الآية التي ذكرناها آنفاً .

     كما أشار إليها النبي e في قوله : ( .. ولكن بعثني معلّماً ميسّراً ... ) * .
* جزء من حديث طويل جاء في قصة تخيير النبي e لنسائه ، رواه الإمام مسلم ، والإمام أحمد ، وفيه : ( إنّ الله لم يبعثني معنفاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً .. ) .


     فالإسلام دين العلم ، والعلماء في مفهوم الإسلام هم ورثة الأنبياء ،كما جاء في الحديث الصحيح : ( إنّ العلماءَ ورَثةُ الأنبياءِ ، وإنّ الأنبياءَ لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورّثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظّ وافرٍ ) * .
* جزء من حديث رواه أبو داود /3641/و/3642/ والترمذي /2683/ وأخرجه ابن ماجه/223/ وصححه ابن حبان /80/ .

     وهذا الحديث الشريف ، وما سواه في فضل العلم ، وإن يكن يتحدّث في الأصل عن العلوم الشرعيّة ، ولكنّ العلوم الكونيّة تدخل فيه من حيث غايتها وأهدافها ، ومن حيث نيّة المسلم في تعلّمها ، ودرجة انتفاع الأمّة بها ، وميادين الأخذ بها واستخدامها ..

     فالعلوم كلّها ترتبط بالإسلام ، وتتّصل بمعينه ومورده في أصلها وموضوعها كما في العلوم الشرعيّة ، أو في روحها وأهدافها ، كما في العلوم الكونيّة ، ولا يعرف الإسلام والمسلمون ذلك الفصام النكد ، ولا تلك الخصومة التي شاعت في أوربا حيناً من الدهر ، وهي لا تزال تحكم تصوّرات الغربيّين ومنطلقاتهم في الحياة ومواقفهم ، وقد تلقفها بعض المتغربين من أبناء المسلمين .
     إنّ الإسلام لا يعرف تلك الخصومة بين الدين والعلم .. والمسلمون كذلك في تاريخهم الطويل لا يعرفونها .. وإنّها لخصومة حقيقيّة بين دين محرّف يتاجر به أربابه .. وبين حقائق كونيّة ، كان المسلمون أسرع الأمم إلى ارتيادها والتنقيب عنها ..

     وإذا كانت الأمم تُعنى بتربية ناشئيها على العقيدة التي تؤمن بها ، فما أجدرنا نحن أمّة الإسلام ، حملة الدين الحقّ ، أن نعتني بذلك غاية الاعتناء ، لترتكز نهضة أمّتنا التعليميّة على أسس راسخة من عقيدة الإسلام ، ومبادئه وقيمه ، والتي من أهمّها :
1 ـ غرس الإيمان واليقين في صلاحية الإسلام لقيادة البشريّة وهدايتها في كلّ عصر ..

2 ـ وتنمية المشاعر الإيمانيّة ، وتربية العواطف الإسلاميّة النبيلة ، وغرس القيم الإخلاقيّة السامية .

3 ـ وبعث الروح الإسلاميّة التي تذكي في النفس طموحها إلى المثل العليا .. كي نستأنف الحياة الإسلاميّة الصحيحة ، ونحقق الانتماء الحيّ إلى أمّة الإسلام .

     وإنّ أيّ علم من العلوم الكونيّة ، الماسّة بحياتنا المعاصرة ، ينبغي أن يُتوخّى منه ، ويحمل في طياته بناء الفكر  الإسلاميّ السليم ، وتحقيق روح الإسلام وأهدافه في بناء الإنسان المسلم ، وتكوين الأمّة المؤمنة ، وصياغة المجتمع الإسلاميّ وتأسيسه على قيم الإسلام ومبادئه ..

     وإنّ هذه الأسس لهي أسسٌ لكلّ العلوم التي يتلقّاها الطالب ، بدءاً من أدنى مراحل التعليم إلى أرفع مستوياته ، لا يستثنى من ذلك علم من العلوم أو مادّة من  الموادّ ، ومن الخطأ البيّن أن تُتجاوز شخصيّة المدرّس  واتجاهه الفكريّ وسلوكه العمليّ ، بدعوى أنه يُعلِّم علماً من العلوم الدنيويّة ، فنقبل بذلك تجاوز الأسس والأهداف الكبرى ، والتفريط بها على حساب الأهداف الصغرى .. فنهدم بأيدينا ما ندّعي الإيمان به بألسنتنا .

     وإنّ الدور التربويّ الذي  يتوخّى من المعلّم ، والمهمّة العظيمة الذي تنتظر منه ، لا تقف عند أبواب منهج دراسيّ محدود .. ولا مسائل علميّة معدودة .. وإنما دوره أكبر من ذلك ، ومسئوليته أعظم : في تهذيب النفوس ، وتوجيه السلوك ، ورسم الحياة الإسلاميّة المثلى أمام الطالب ، وتحبيبه بها ، وحثّه على بلوغها ..

     ونخلص من ذلك إلى أن المعلّم في مفهوم الإسلام إنما هو معلّم وداعية ومربٍّ وقدوة .. لا تقتصر مهمّته على تلقين علوم ، وتحفيظ مسائل .. وحشو معلومات في رءوس الطلاب ..

     وهذا ما يقتضي أن تكون للمعلّم صفات ومؤهلات تربويّة ، منها ما يتحقّق بها في نفسه ، ومنها ما يظهر في علاقته وصلته بطلابه ، وتأثيره فيهم . وهي بمجملها تميّزه عن الموظّف المكلّف بعمل محدود ، ومهمّة معيّنة .. وهو ما سنتحدث عنه بإيجاز في المبحث التالي بإذن الله تعالى ..



المبحث الخامس
صِفاتُ المُعلّمِ ومُؤهلاتُه التربويّة

     إنّ التربية والتعليم قضيّة دقيقة دقّة النفس البشريّة في تركيبها وتقلّباتها ، وأوضاعها واحتياجاتها .. إن لم يسلك المعلّم سبيلها على هدى وبصيرة ربما أدّت إلى عكس النتائج المطلوبة ، والآثار المرجوّة ..

     فكم من معلّم نفّر الطالب عن التعليم ، وصدّه عن العلم ، وقطعه عن المدرسة ؟!

     وكم من معلّم أورث في قلوب طلابه عقداً من المادّة التي يدرّسها ، لا تنسى ما بقوا على قيد الحياة ؟!

     وكم من معلّم كان سبب انحراف بعض طلاّبه وجنوحهم عن السبيل القويم ، الذي تتوخّى غرسه في نفوسهم مناهج التعليم .؟‍

     إنّ التربية قوامها : علم وفنّ ، وموهبة وأخلاق ..

     وهذا خلاصة ما جاء في القرآن الكريم ، والسنة النبويّة المطهّرة من العلم والحكمة والتزكية ..

     فأمّا العلم ؛
     فلابدّ للمعلّم من أن يكون متمكّناً مما يريد تعليمه .. ملمّاً بجوانبه محيطاً بمسائله ، وتلك بدهيّة تحتاج إلى ذكر وتنويه ، ولكنّها لا تحتاج إلى مزيد بيان وتفصيل ..

     ثمّ كانت مهمّة النبيّ e في أمّته كما قال الله سبحانه : ( هو الذي بعث في الأميين ... )    الجمعة/2 .

     وينبغي أن نعلم أنّ الفرق كبير بين التعليم الربّانيّ وبين تعليم البشر ، الذي يقوم على بذل الجهد والمعاناة ، والتدرّج في كسب العلوم ، واتّخاذ الأسباب للتقدّم فيها ، ويحتاج تعليم البشر إلى إعمال الفكر ، وقوّة النظر ، واستخدام الحواسّ والسمع والبصر ، فإذا استقرّ التعليم بعد ذلك في النفس ، وكان قاصراً على هذا المجال كان علماً ظاهريّاً ، لا يزيد على تثقيف العقل المادّيّ الذي يقف عند حدود الحياة الدنيا ولا يتجاوزها .. .

     وأمّا التعليم الربّانيّ فإنّه يبْتدئ منْ إيقاظ القلب ، وتقتَرن به ثقافة العَقل ، وكُلّما ازداد العقل فيه ثقافةً ، ازداد القلب يقظةً واستجابةً لنداء الحقّ ، ويكون تأثير التعليم الربّانيّ جليّاً في تهذيب النفس ، وسموّ شعورِها ، وصقل دوافعها ونوازعِهَا .

     وأمّا الفنّ ؛
     فنعني به الأسلوب أو الطريقة ، التي ينتهجها المعلّم لنقل المعلومات والحقائق إلى طلابه ، ليفهموها ، ويتفاعلوا معها ، ويستجيبوا لمقتضياتها ، مما ينجح مهمّته ، فتعطي أطيب الثمرات والنتائج ..

     وربّ معلّم ذي معلومات واسعة لم يتّخذ الأسلوب المناسب لعرضها ، وتقريبها إلى أذهان الطلاب ، فخاطبهم بما يعلو على أفهامهم ، ويدقّ على إدراكهم .. فبقي العلم عليهم عصيّاً مستغلقاً ..

     وربّ معلّم ذي أسلوب ناجح ، غير متمكن من معلوماته ، رسخّ في أذهان طلابه معلومات غير صحيحة .

     فلا غنى للمعلّم المتمكّن عن الأسلوب الناجح المؤثر ..

     وأمّا الموهبة ؛
     فهي الاستعداد الفطريّ ، والملكات الخاصّة ، التي يمنحها الله تعالى بعض عباده ، ويختصّهم بها ، ممّا يؤهّلهم للتعليم بالفطرة ، فيكونون مبدعين في عملهم ، وعلى نجاح أكبر في مهنتهم ، ويؤدّون رسالة التعليم على أحسن وجه .

     وشتّان بين معلّم مبدع موهوب في مهنته وعمله ، وبين معلّم قد لجأ إلى هذه المهنة لأنّه لم يتقن مهنة سواها ، فهو لا يزال متأفّفاً منها متذمّراً .‍!

     وأمّا الأخلاق ؛
     فلا يمكن أن تُتصوّر رسالة المعلّم تؤدّى في المفهوم الإسلاميّ مجرّدة عن تمتّع المعلّم بقسط وافر من الأخلاق الفاضلة ، والصفات الزكيّة الحميدة ، ولقد أثنى الله تعالى على نبيّه صلوات الله وسلامه عليه أعظم الثناء بما منحه من زكيّ الأخلاق .

     وإذ كان الحديث عن صفات المعلّم ومؤهّلاته التربويّة ذا صلة ماسّة بأخلاق المعلّم الخاصّة ، فقد آن لنا أن نشرع في تعداد تلك الصفات دون الخوض في تفصيلاتها ، لأنّ ذلك يخرج بنا عن نطاق البحث وحدوده ، ولا يسمح به الاختصار الذي أخذنا أنفسنا به ، فنقول وبالله تعالى العون والتوفيق :

     1 ـ إنّ أوّل صفات المعلّم ومؤهّلاته التربويّة : أن يكون قدوة حسنة لطلاّبه ، وأن يستشعر ذلك في نفسه دائماً ، وأن يحسّ طلاّبه أنّه قدوة حسنة لهم في كلّ قول أو عمل ، أو حركة أو تصرّف ..

     ولابدّ للمعلّم المربّي أن يكون متأسّياً برسول الله e قبل أن يتطلّب من طلاّبه أن يتأسّوا به ، إذ كيف يكون في سلوكه قدوة لطلاّبه إن لم تكن له أسوة حسنة يقتدي بها ويهتدي .؟! ولا أسوة أعلى وأجلّ من النبيّ e ..

     2 ـ أن  يتفنّن المعلّم في غرس الحبّ في نفوس طلابه ، وأن يشعرهم أن حبّه لهم هو الدافع للاهتمام بهم ، ومتابعتهم ، والعتب على المقصّر منهم ، بل والزجر والعقوبة أحياناً .. بمَا تقتضيه الحكمة عليهِ وما تمليْه ، وذلك ليكون الحبّ متبادلاً بين المعلّم وطلابه ، وليكمل استعداد الطلاب للتجاوب والجدّ ، ويتوجّهوا للاجتهاد والعمل .

     فإذا أحبّ التلميذ معلّمه حرص بكلّ جهده على إرضائه ، وسارع إلى تنفيذ توجيهاته ورغباته ، وأقبل على العلم بكلّ شغف وهمّة ، فكان في ذلك فلاحه ورشده ..

     فالحبّ يسبق التعليم والتوجيه ، ويتقدّم عليه ، وهذا ما أرشد إليه النبيّ e في هديه وتوجيهه ففي الحديث الصحيح : ( أخذ رسول الله e بيد معاذ بن جبل t وقال له : ( يا معاذ ! والله إنّي لأحبّك ! أوصيكَ يا معاذُ ! لا تَدَعنّ في دُبُرِ كلّ صَلاةٍ تَقُولُ : اللهمّ أعنّي على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادتِكَ ) * .
* رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح كما في الأذكار للإمام النوويّ /69/، وفي رواية أنّه كرّر له : والله إنّي لأحبّك ثلاث مرّات  .
.

     ولا ننسى أن مباسطة المعلّم لطلابه ، وقربه النفسيّ منهم ، له أثر كبير في غرس حبّه في أنفسهم ، وجذب قلوب الطلاب إليه ، ومسارعتهم إلى الطاعة والامتثال ، ومحبّة المادّة التي يتعلمونها .. وتلك حقيقة واضحة لا ينبغي أن يغفل عنها المعلّمون المربّون ..

     فمن شمائل الرسول e : " مَن رآهُ بديهةً هابه ، ومَن خالطه معرفةً أحبّه " * .
* رواه الترمذي في الشمائل ص /21/ ، وفي السنن في المناقب برقم /3642/ .

     وكان e يشعر جليسه ، بأنّه أحبّ الناس إليه ، لما يرى من تواضعه e ومباسطته ، وإقباله بوجهه واهتمامه ..

     3 ـ تفقد أحوال الطالب ، ومعرفة ظروفه النفسيّة والاجتماعية ، وما يواجه من عقبات ومشكلات ، ومساعدته في حلّها وتذليلها ما أمكن ..

     وإذا كان ذلك في نظم التعليم المعاصرة من مسئوليّات " المرشد الطلاّبي " فإنّه في الأصل من مسئوليّة المعلّم المربّي ، ونظراً لقصور كثير من المعلّمين عن التأهّل لهذه المسئوليّة فقد أصبحت اختصاصاً يناط بمن يتفرّغ له ، ويتحمّل أعباءه ، كما لا يخفى أنّ العمل التعليميّ والتربويّ مسئوليّة مشتركة بين جميع المعنيّين بشَأنها ، القائمين على أمرها .
 
     ولا يتأتّى للمعلّم أن يكون كذلك إلاّ إذا كان دقيق الملاحظة ، ذا فطنة ونباهة ، يحوط الطلاب ويرعاهم ، ويلاحظ حركات ، ويرصد مواقفهم ، وينتبه لتكرار بعض المواقف والتصرفات منهم ، فتهمّه ويسعى إلى اكتشاف أسبابها ، ومعرفة ما وراءها .. ويرى ذلك جزءاً من مسئوليّته ومهمّته ..

    وإنّ بعض المعلّمين لتقتصر علاقته مع طلابه على علاقة رسميّة شكليّة ، جافّة في كثير من الأحيان ، يلقي درسه ، ويقوم بأعمال رتيبة ، ثمّ ينصرف لم يفكّر يوماً ما أن يتفقّد أحوال طلابه ، أو يعرف ظروفهم وأوضاعهم .. ونتيجة لذلك فقد يقع  منه الظلم لبعضهم ، وسوء التفسير لمواقفهم .. لأن جانباً كبيراً من أوضاعهم قد خفي عنه ولم يعرفه ..

     4 ـ ومن صفات المعلّم ومؤهّلاته التربويّة : أن يحرص ما استطاع على الطالب ، ويهتمّ به ، وقد سجّل القرآن الكريم هذه  الصفة للمصطفى صلوات الله وسلامه عليه .

     وإنّ التعليم لمسئوليّة جليلةٌ ، سوفَ يُسأل المعلّم أمامَ الله تعالى عما استرعاه من رعيّته ، فلابدّ للمعلّم أن يعمّق في نفسه الشعور بهذه المسئوليّة ، ليعطيها حقّها ..

     ولقد بلغ من حرص النبي e واهتمامه بقومه ، أن تنزّلت آيات من القرآن الكريم تأمره ألاّ يحمّل نفسه من الأمر ما لا يطيق .

     5 ـ المتابعة الدقيقة ، والتوجيه المستمر ، والصبر والدأب ، وعدم الملل أو السأم ، إذ إنّ التربية عمليّة مستمرّة متجدّدة ، لأنّ النفس البشريّة دائمة التقلّب ، متعدّدة المطالب ، متشعبّة الاتجاهات ، متنوّعة الاهتمامات .

     فالتوجيه يحتاج إلى متابعة ، والحالة المستجدّة تحتاج إلى توجيه جديد ، ثمّ التوجيه الجديد يحتاج إلى متابعة .. ثم المعاني القديمة في التوجيه تحتاج إلى تذكير وتجديد ، وإعادة بحث وتأكيد .. وهكذا .!

     وتلك حاجة فطريّة يدركها كلّ عاقل من نفسه ، ويحسّ بها ويلاحظ آثارها .

     ومن لم يفقه هذه الطبيعة في النفس البشريّة سارعت إليه الملالة ثم السأم ، فالقنوط من التربية والاصلاح .. ثم يتحوّل في عمله إلى موظّف لا روح عنده ، ولا تأثير في كلامه ..

     فالأمر بالصلاةِ يحتاج إلى الاصطبار ، وهو أبلغ من الصبر ، والاصطبار على الأمر بالصلاة من التقوى ، التي يَعِدُ الله المتحقّق بها أحسن العواقب .

     6 ـ ملاحظة  الفروق  الفرديّة  بين الطلاب ، ومراعاتها في التعامل : تعليماً ، وتربية ، ومتابعة ورعاية ، وقد أشار القرآن الكريم إلى قضيّة الفروق الفرديّة في مناسبات عديدة .

     وجاء في الحديث عن عليّ t : " حدّثُوا الناسَ بما يعرفون ، أتحبُّون أن يُكذّبَ اللهُ ورسولُه .؟! " * .
* رواه البخاريّ عن عليّ t موقوفاً ، وروي مرفوعاً وبألفاظ أخرى ، انظر كشف الخفاء : 1/421 و 225 / .

     وفي الحديث أيضاً : " أنزِلُوا الناسَ منازلهم " أو : " أمرنا رسولُ اللهِ e أن نُنزِل الناسَ منازلهم " * .
* رواه مسلم في مقدّمة صحيحه ، ورواه أبو دادود ، انظر كشف الخفاء : 1/421 .

     7 ـ أن يكون المعلّم متحلّياً بالحكمة في شخصيّته وسلوكه ، وتصرّفاته ومواقفه .
     وتعليم الحكمة والسير على مقتضاها من أعظم مهامّ البعثة المحمّديّة كما مرّ بنا قريباً ، وهي خير ما يُعطي الله عباده من الخير والفضل والتوفيق .

     وميدان الحكمة واسع فسيح ، لا تحدّه الكلمات ولا تحكمه ساحات السطور ، في الوقت الذي فاضت به جوانب السيرة النبويّة العطرة ، على صاحبها أفضل السلام ، وأزكى التحية ؛ ولكنّنا نشير إلى  أهمّ مظاهر الحكمة ، التي ينبغي أن يتحقّق بها المعلّم المربّي ، في تصرفاته وسلوكه :

     فمن الحكمة ؛ بعد النظر ، واتزان المواقف ، وضبط النفس ، فلا يجمح بالمعلّم الهوى ، ولا يستفزّه الغضب ، ولا يخرج به عن العدل والانصاف ، والدفع بالتي هي أحسن ، والحلم وكظم الغيظ ، وحفظ اللسان وحسن التصرّف ..

     ومن الحكمة ؛ التربية بالحال والسلوك قبل المقال ، والاستغناء بالاشارة عن العبارة ، وبالتلميح عن التصريح .. ما أمكن ذلك ..

     ومن الحكمة ؛ إيثار الأرفق والأيسر ، مالم يكن إثماً ، والتغاضي ما أمكن ذلك ، بلا تفريط فيما يجب ولا تضييع ، وقد كان من هدي النبيّ e وشمائله : " مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ e بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلاّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ e لِنَفْسِهِ إِلاّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا ) ، كما تقول السيّدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها * .
* رواه البخاريّ /3296/ .

وفي الحديث الصحيح : ( عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ ، فإِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاّ زَانَهُ ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إلاّ شَانَهُ ) * . ومعنى شَانَهُ أي عابه وانتقصه .
* رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها /2593/ .

     ومن الحكمة ؛ مراعاة الضعف البشري ، وتقدير تقلبات النفس بين القوة والضعف والصحة النفسية والمرض .. والمطالبة بالقدر الوسط الذي يناسب الأكثريّة ، والواقعيّة وعدم الجنوح إلى مثالية مرهقة للنفس ، بعيدة عن الواقع ..

     ومن الحكمة ؛ أن يعتمد المعلّم الأسلوب غير المباشر في التربية والتوجيه فيما يناسب ذلك ، ويبتعد عن توجيه اللوم المباشر ، أو الإكثار من التأنيب والتقريع ..

     ومن الحكمة ؛ ربط التعليم والتربية بالواقع واتّصاله به .. إذ إنّ كلّ ما يربط بالواقع تتفاعل به النفس ويحفظ ، ويُقبل ويُؤلَف .. وكلّ ما سبق له أدلّته الكثيرة من سيرة النبيّ e وهديه ، وأخلاقه e العطرة وحكمته ، ويطول بنا القول لو ذهبنا ندلّل عليه ، ونستشهد له .

     ومجمل القول : إنّ العمل التربويّ ، والجهاد التعليميّ ليس الواحد منهما مجرد أوامر ونواهٍ تصدرها جهة عليا إلى جهة دنيا .. كالأوامر العسكريّة لا خيار للجهة المتلقية عن الطاعة والانقياد ، والالتزام والتنفيذ .. إنّ التعلّم تفاعل مستمرّ ، وحوار بنّاء بين المعلّم والمتعلّم ، إنّه عمل يعتمد أوّلاً على غرس المفاهيم والإقناع بها ، والترغيب في التزامها ، وبيان عاقبة تركها أو مخالفتها ..

     إنّه بكلمة موجزة : عمل يعتمد في نجاحه على قدرة المعلّم المربّي على فتح العقول والقلوب ، والتأثير فيها بإذن الله تعالى .

     وإنّ السرّ وراء الإخفاق التعليميّ أو التربوي في حياة بعض المعلّمين ، إنّما يعود إلى ممارسة التربية والتعليم على أنّها أوامر تلقى ، ونواهٍ ينهى عنها ، لا اجتهاد فيها  في بلوغ غاية ، أو اجتناء ثمرة ، ولا تفنّن فيها بما يبلغ  القلوب ، ويُليّن عَصيّ النفوس ..

     وبعد ؛ فإن لم يتحقّق المعلّم بهذه الصفات التربويّة المؤهّلة ، ويكن على قدر معقول منها ، في نفسه وسلوكه وعلاقته ، فإنّه لن يكون إلاّ موظّفاً ، أو أشبه بالقائد العسكريّ ، الذي لا يعرف إلاّ إلقاء التعليمات والأوامر ، ولابدّ له لبلوغ هذه الغاية من العصا الغليظة ، التي يهدّد بها في كلّ لحظة .. ولن يكون بعد ذلك إلاّ مخفقاً في مهمّته ، قاصراً عن أداء رسالته ، ولعلّ هذا من أسباب إصرار بعض المعلّمين على اتّخاذ العصا وسيلة وحيدة للعقاب يلجأون إليها في كلّ موقف .! ولكن ؛ هل نستطيع أن نتصوّر معلّماً تحقّق بهذه الصفات الآنفة الذكر .. ثمّ كان بعد ذلك موظّفاً أو شبه موظّف ..؟

     إنّنا لا نستطيع الجواب سلباً أو إيجاباً إنطلاقاً من هذه الصفات التربويّة المؤهّلة ، واكتفاء بها .. إنّها حقّاً صفات ضرورية لازمة ، ولكنّها غير كافية .. فهناك بعض الأمور الخارجة عن شخصيّة المعلّم واستعداده ومواهبه .. قد تهيمن على تصوّراته وتضغط على سلوكه ، فتضعف رسالته التربويّة، وتحوّله إلى موظّف ، يقوم بمهمّة روتينيّة قاصرة .. وهي موضوع حديثنا في النقطة التالية بإذن الله تعالى ..


المبحث السادس
أسبابٌ أخرُ تحوّلُ المعلّمَ إلى موظّف

     إنّ هناك أسباباً أخرى ، تحوّل المعلّم إلى موظّف ، منها ما يخرج عن إرادة المعلّم ، ومنها ما يتّصل بشخصيّته وتكوينه وواقعه ، هذه الأسباب تُضعف في نفس المعلّم شعوره برسالته التربويّة ، ثمّ يزداد هذا الضعف في حياته ، فيتحوّل مع الأيّام عن رسالته المتميّزة إلى موظّف ، يقوم بعمل روتينيّ آليّ ، فيفقد الروح في عمله ، واللذة في جهاده وتضحيته .. .

     ونعدّد هذه الأسباب تعداداً ، وهي تدلّ على ما وراءها وتلمح إليه ، فمن هذه الأسباب :

     1 ـ فقد التصوّر الصحيح عن الأهداف التربويّة العامّة والخاصّة من فهم المعلّم وشعوره ، أو ضعفها أو الغفلة عنها ، أو ضعف متابعة الموجّهين المشرفين للاهتمام بها وملاحظتها حين أداء المعلّمين لعملهم التربويّ .. والمعلّم بحاجة ماسّة إلى أن تقدّم له كاملة موضّحة ، وأن يذكّر بها بين الحين والآخر ، بل بصورة دائمة .. وأن يعرف الآليّات التربويّة لتطبيقها الميدانيّ من خلال عمله التربويّ ، وعلاقاته المميّزة مع طلاّبه .

     وإنّنا لنجد في سياسة التعليم في المملكة العربيّة السعوديّة ما يوضّح لكلّ معلّم هذه الأهداف ، ويضعه أمام مسئوليّته الشرعيّة والمسلكيّة لتنفيذها وتحقيقها ..

     وكثير من المعلّمين هم بحاجة إلى أن تشرح لهم أبعاد هذه الأهداف ، وكيفيّة التعامل بها ، وتنزيلها على الواقع التعليميّ والتربويّ ، الذي يقومون به ويمارسونه يوميّاً ، ليكون عملهم محقّقاً لأهدافه ، مرتبطاً بغايته على أحسن وجه وأرفع مستوىً .. ثمّ هم بحاجة إلى المتابعة والتذكير ، بل والمحاسبة على الإخلال بها أو تجاوزها ، وبخاصّة من ناحية العمل والسلوك .

     2 ـ بُعد بعض المعلّمين عن الالتزام الإسلاميّ ، وفقد الهدف السامي الذي يعمل لأجله من تصوّره وسلوكه ..

     3 ـ ضعف مستوى بعض المعلّمين علميّاً وثقافيّاً ، ورضاهم بما هم فيه ، من تدنّي المستوى ، وضحالة الفكر ، ثمّ تراهم لا يسعون إلى رفع مستواهم ، ولا يجدون من طبيعة النظام التعليميّ وآليّات عمله ما يطلب منهم ذلك ، مما يجعلهم يعيشون حالة من التآكل مع الزمن ، والتخلّف عن مستوى العصر الذي يعيشون فيه ..

     4 ـ استمرار بعض المعلّمين في تدريس منهج معين ، ولمستوى معين ، سنوات طويلة قد تبلغ عشرين سنة أو أكثر ، مما يورثه الملل ، ويحوّل عمله إلى عمل روتينيّ رتيب ، ويفقده التجديد في أسلوبه وطريقته ، ونرى بعض المعلّمين قد يعدّ ذلك خيراً له ، لأنّه يُعفيه من تعب التحضير الجديد ، وتركيز المعلومات وتجديدها.

     5 ـ كثرة الأعمال الشكليّة التي تطلب من المدرّس ، وتأخذ وقته ، وتستهلك نشاطه  ، وتضغط بأعبائها عليه ، فتشغله عن التفكير برسالته التربويّة وأهمّيّتها ، فضلاً عن أدائها والقيام بحقها على خير وجه ..

     ومما يزيد في ذلك ، أن محاسبة المدرّس على عمله من قبل الإدارة ، ومن قبل الموجّهين الزائرين ، إنما تتركّز بالدرجة الأولى على تلك الجوانب الشكليّة ، ويُقوّم المدرس من خلالها .. مما يكرّس في نفسه أن هذه الشكليّات هي جوهر عمله ولبّه ، وقصارى ما يطلب منه ، وأنّ ما يقال عن روح التربية والتعليم ، وأهدافها التربوية ، نافلةٌ من القول وفضول ..!

     وليس بعد الواقع العمليّ الذي يسأل عنه المعلّم ويحاسب عليه من حجّة أوضح ، أو بيان أبلغ .

     وثمّت ملاحظة أخيرة : إنّ أكثر أنظمة التعليم في البلدان الإسلاميّة تعتني بالشكل على حساب المضمون ، وترجّح ظواهر العمل التعليميّ على أسسه ومبادئه ، ويهمّها " الكمّ " ، وتُقوّم النجاح التعليميّ على أساسه ، دون " الكيف " والنوعيّة " التي هي روح العمل التربويّ ، وثمرته ولبّه ..

     ومن هنا يكلّف المدرس بأعباء تجعله يهمل " نوعيّة مُهمّته وأهدافها " على حساب الوفاء بالالتزامات الشكليّة الظاهرة للعمل ، والقيام بها ، فيتدنّى مستوى عمله ، ويفقد روحه ولذّته ، ويتحوّل هو نفسه إلى موظّف يقوم بعمل شكليّ مملّ ..

     تلك في تصوّري ونظري أظهر الأسباب التي تحوّل " المعلّم " إلى " موظّف " .. وتحول بين المعلّم وبين أداء رسالته التربويّة على الوجه الصحيح المطلوب .. وإنّ تداركها ليحتاج إلى تعديل في نظم التعليم نفسها .. ومراجعة آليّات العمل والمتابعة فيه ، فما نهضت أمّة من أمم الأرض ، إلاّ بعد أن توجّهت عنايتها إلى التعليم ونُظمه ، ومنطلقاته وأسسِه .. وأساليب العمل والمتابعة ، ثمّ اعتنت بالمعلّم الذي هو أساس نجاح أيّ خُطّة تعليميّة ، وعماد تنفيذها وتحقيق أهدافها ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق