الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

كتاب آداب العلماء والمتعلمين - 3




السابع:
     إن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستثير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعاً، مهما أمكنه التورع، ولم تلجه حاجة، بل يطلب الرتبة العالية، ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه، وأحق من اقتدى به في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث لم يأكل التمرة التي وجدها في الطريق خشية إن تكون من الصدقة، مع بعد كونها منها، ولأن أهل العلم يقتدي بهم ويؤخذ عنهم، فإذا لم يستعملوا الورع فمن يستعمله ?

الثامن:
     إن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة، كالتفاح الحامض، والباقلا، وشرب الخل، وكذلك ما يكثر استعماله البلغم المبعد للذهن، ككثرة الألبان والسمك ونحو ذلك، ويجتنب ما يورث النسيان بالخاصة كأكل اثر سور الفار، وقراءة ألواح القبور، والدخول بين جملين مقطورين، وإلقاء القمل حية، ونحو ذلك من المجريات.

التاسع:
     إن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عِلى ثمان ساعات، وهي ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل من ذلك فعل، ولا بأس إن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا أكل شيئاً من ذلك، أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه، وكان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض. ويتجنب ما يعاب من الهزل والبسط بالفعل وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا والضحك الفاحش بالقهقهة.

العاشر:
     إن يترك العشرة، فإن تركها من أهم ما ينبغي لطلب العلم، ولا سيما لغير الجنس، وخصوصاً لمن كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع شر آفة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعرض إن كانت لغير أهل، وذهاب الدين إن كانت لغير أهله. والذي ينبغي لطالب العلم إن لا يخالط إلا من يفيد أو يستفيد منه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أغد عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالث فتهلك. فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه، فليتلطف في قطع عشرته في أوائل الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتها، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء الدفع اسهل من الرفع، فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحاً، ديناً، تقياً، ورعأً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، أو ضجر صبره، ومما يروى عن علي رضي الله عنه:

لا تصحب أخا الجهل      و إيَّاك وإيَّاه    
فكم من جاهل أردى      حليماً حـين آخـاه    
يقاس المرء بالمـرء      إذا ما هو مـاشـاه    

ولبعضهم:

إن أخاك الصدق من كان معك      و من يضر نفسه لينفـعـك
و من إذا ريب زمان صدعك      شتت شمل نفسه ليجمـعـك


الفصل الخامس
في آداب المتعلم مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من عظيم حرمته
وذلك ثلاثة عشر نوعاً:
الأول:
     ينبغي للطالب إن يقدم النظر،و يستخير الله فيمن يأخذ عنه العلم، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، ويتحرى في كونه ممن كملت أهليته وتحققت شفقته، وطهرت مروءته وعرفت عفته، واشتهرت صيالته، وكان احسن تعليماً وأجور تفهيماً، ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص ورع أو دين أو عدم خلق جميل، وعن السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وليحذر من التقيد بالمشهورين وترك الأخذ عن الخاملين، فقد عده الغزالي وغيره من الكبر في العلم، لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه، فإنه يهرب من مخافة الجهل كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص، كائناً من كان.

     وذكر أبو نعيم في الحلية، إن زينَ العابدين علي بن الحسين عليهما السلام كان يذهب إلى زيد بن أسلم، فيجلس إليه، فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه، فقال: العلم يُتَبع حيث كان ومن كان. فإن كان الخامل ممن ترجى بركته، كان النفع به أعم والتحصيل من جهته أتم. وإذا سيرت أحوال السلف والخلف، لم تجد النفع يحصل غالباً، والفلاح يدرك طالباً إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر، والفلاح الاشتغال به أكثر. وليجتهد على إن يكون الشيخ ممن له في العلوم الشرعية تمام اطلاع، وله ممن يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ من بطون الأوراق. لمال الشافعي، من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام، وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية مشيخة الصحيفة، أي الذين يتعلمون من الصحف.

الثاني:
     إن ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاوره فجما يقصده، ويتحرى رضاه فجما يعتمده، ويبالغ في حرمته ويتقرب إلى الله بخدمته، ويعلم إن ذله لشيخه عز، وخضوعه فخر، وتواضعه له رفعة. أخذ ابن عباس رضي الله عنه، مع جلالته وقرابته من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلو مرتبته، بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وهو ممن أخذ عنه ابن عباس العلم، وقال: هكذا أمرنا إن نفعل بعلمائنا، وقد سبق ما رواه الطبراني في الأوسط، عن أبي هريرة مرفوعاً، تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة وتواضعوا لمن تعلمون منه، ولا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده، وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه.

الثالث:
     إن ينظره بعين الإجلال ويعتقد فيه درجة الكمال، ويوقره وبعظمه، فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، قال بعضهم حسن الأدب ترجمان العقل ومراعاة الأدب، فيما بين المحققين مقدم على غيره، ألا ترى كيف مدح الله أهله وشرف محلهم، بقوله: )إن الذين يغضون أصواتهم عن رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة واجر عظيم(. وينبغي إن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعد، بل يقول: يا سيدنا ولا مولانا ونحو ذلك، وما تقولون في كذا، وما رأيكم في كذا، وشبه ذلك ولا يسميه في غيبته باسمه إلا مقروناً بما يشعر بتعظيمه، نحوَ قال الشيخ الأستاذ، أو قال شيخنا، أو قال مولانا ونحو ذلك.

الرابع:
     إن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، فعن أبي إمامة الباهلي مرفوعاً: من علًم عبداً آية من كتاب الله فهو مولاه. ومن ذلك، إن يعظم حضرته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس، وينبغي أن يدعو له مدة حياته، ويرعى ذريته وأقاربه وأولاده بعد وفاته، ويتعاهد زيارة قبره، والاستغفار والصدقة عنه، ويسلك في الهدى والسمت مسلكه، ويتأدب بآدابه، ولا يدع الاقتداء به.

الخامس:
     إن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر إن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار، والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العتب فيه إليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.

     وعن بعض السلف: من لم، يصبر على ذل التعليم، بقي عمره في عملية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة. وعن ابن عِباس رضي الله عنهما: ذللت طالباً فعززت مطلوباً. وقال أبو يوسف: خمسة يجب على الناس مداراتهم، وعد منهم العالم، ليقتبس من علمهْ ولبعضهم:

اصبر لدائك إن جفوت طبـيبـه      و أصبر لجهلك إن جفوت معلما

السادس:
     إن يشكر الشيخ على توفيقه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه، أو قصور يعانيه، أو غير ذلك مما في إيقافه عليه وتوبيخه وإرشاده وإصلاحه، ويعد ذلك من الشيخ من نعم الله تعالى عليه، باعتناء الشيخ به ونظره إليه، فإن ذلك أميل لقلب الشيخ وأبعث على الاعتناء بمصالحه، وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب، أو نقيصة صدرت منه، وكان يعرفه من قبل، فلا يظهر أنه كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به، وإلا تركه.

السابع:
     إن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا بالاستئذان، سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره. ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به، فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيفاً بآداب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً، قليلاً، فإن كان الموضع بعيداً عن الباب أو الحلقة، فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يقدم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم يسلم عليه الأفضل فالأفضل. وينبغي إن يدخل على الشيخ كامل الهيئة، متطهر البدن والثياب، نظيفهما، بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر، وقطع رائحة كريهة، لا سيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة0 ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام، وعنده من يتحدث معه فيسكتوا من الحديث، أو دخل والشيخ وحده يصلي، أو يذكر، أو يكتب أو يطالع، فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث، فيسلم ويخرج سريعاً، إلا إن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا إن يأمره بذلك. وينبغي إن يدخل على الشيخ أو يجلس عنده وقلبه فارغ من الشواغل له، وذهنه صاف لا في حال نعاس أو غضب أو جوع شديد أو عطش أو نحو ذلك، لينشرح صدره لما يقال، ويعي ما يسمع.

     وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالساً، انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه، فإن كل درس يفوت لا عوض له. ولا يطلب من الشيخ قراءة في وقت يشق عليه فيه، أو لم تجر عادته بالإقراء فيه، ولا يخترع عليه وقتاً خاصاً به دون غيره، وإن كان رئيساً أو كبيراً، لما فيه من الترفع والحمق على الشيخ والطلبة والعلم، فإن بدأه الشيخ بوقت معين أو خاص لعذر عائق له عن الحضور مع الجماعة أو لمصلحة رآها الشيخ فلا بأس بذلك.

الثامن:
     إن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ، أو متربعاً بتواضع وخضوع وسكون، وخشوع، ويصغي إلى الشيخ ناظراً إليه، ويقبل بكليته عليه، متعقلاً لقوله، بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينفض كمه ولا يحسر عن ذراعيه، ولا يعبث بيديه أو رجليه، ولا يضع يده على لحيته أو فمه، أو يعبث بها في أنفه، أو يستخرج بها منه شيئاً، ولا يفتح فاه ولا يقرع سنه، ولا يضرب الأرض براحته، أو يخط عليها بأصابعه، ولا يشبك يديه أو يعبث بإزاره. ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط، أو مخدة أو يجعل يده عليها أو نحو ذلك، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه وما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب ولا لعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم، تبسم من غير صوت، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه، بل يأخذها من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوب، ويتعاهد تغطية أقدامه وسكون يديه عند بحثه، أو مذاكرته، وإذا عطر خفض صوته جهده، وستر وجهه بمنديل أو نحوه، أو إذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.

     وعن علي رضي الله عنه قال: "من حق العالم عليك إن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية وإن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك، ولا تغمزن بعينك عنده، ولا تقولن: قال فلان: خلاف قولك، ولا تغتابن عنده أحداً ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك إن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء، وإن المؤمن العالم لأعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم، انثلمت في الِإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يو م القيامة(. أخرجه الخطيب في الجامع، ولقد جمع رضي الله عنه في هذه الوَصعية ما فيه مقنع.

     قال بعضهم: ومن تعظيم الشيخ، إن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا إذا جزم عليه جزماً يشق عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال، ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب.

السابع:
     إن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان، ولا يقول له لم ولا نسلم، ولا من يقل هذا، ولا أين موضعه ? وشبه ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك في مجلس آخر على سبيل الاستفادة، وإذا ذكرت شيئاً لا تقل هكذا قلت، أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان. وهكذا لا تقول: قال فلان خلاف هذا، أو روى فلان خلافه، أو هذا غير صحيح أو نحو ذلك. وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل، ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهواً، فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر عليه، لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيباً لغفلة، أو سهو، أو قصور نظر في تلك الحال، فليس بمعصوم وليتحفظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه ولا يليق خطابه به، مثل إيش بك، وفهمت، وسمعت، وتدري، ويا إنسان ونحو ذلك. وكذلك لا يحكي له ما خوطب به غيره، مما لا يليق خطاب الشيخ به، وإن كان حاكياً مثل قال فلان لفلان، أنت قليل البر وما عندك خير وشبه ذلك، بل يقول: إذا أراد الحكاية ما جرت العادة بالكناية به، مثل، قال فلان لفلان: إلا بعد قليل البر وما عند البعيد خير وشبه ذلك. ويتحفظ من مفاجأة الشيِخ بصورة رد عليه، فإنه يقع ممن لا يحسن الأدب من الناس كثيراً مثل، إن يقول له الشيخ: مرادك في سؤالك كذا، أو خطر لك كذا، فيقول: لا، وما هذا مرادي أو ما خطر لي هذا وشبه ذلك. بل طريقه أن يعيد كلامه ولا يقول الذي قلته، والذي قصدته ليضمنه الرد عليه، وكذلك ينبغي أن يقول في موضع، لم ولا نعلم، فإن قيل لنا كذا أو فإن منعنا ذلك، أو فإن سئلنا عن كذا أو فإن أورد كذا وشبه ذلك ليكون سائلاً له بحسن أدب ولطف عبارة.

العاشر:
     إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مساًلة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية، أو ينشد شعراً وهو يحفظ ذلك، أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال كأنه لم يسمعه قط، قال عطا: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً،و عنه قال: إن الشاب ليتحدث فأسمع له كأن لم اسمعه، ولقد سمعته قبل إن يولد، فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له، فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل لا لما فيه من الكذب، بل يقول أحب إن أستفيده من الشيخ، أو إن اسمعه منه، أو هو من جهتكم أصح، ولا يكرر السؤال لما يعلمه ولا يشغل ذهنه بفكر أو حديث، ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة ادب، بل يكون مصغياً لكلامه حاضر الذهن لما سمعه من أول مرة، فإن لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه مع الإصغاء والإقبال عليه، فله إن يسأل الشيخ الإعادة والتفهيم بعد بيان عذره.

الحادي عشر:
     إن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه، أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه قبل الشيخ، وينبغي إن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه، أو مع جماعة المجلس.

     وفي حديث هند بن أبي هالة، في وصفه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا.

الثاني عشر:
     إذا ناوله الشيخ شيئاً تناوله باليمين، وإن ناوله شيئاً ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا، أو قصة، أو مكتوب شرعي، ونحو ذلك، نشرها ثم دفعها إليه. ولا يدفعها مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا ناوله الشيخ كتاباً ناوله إياه مهيئاً لفتحه والقراءة فيه من غير احتياج إلى إدارته، فإن كان النظر في موضع معين فليكن مفتوحاً، كذلك ويعين له المكان، ولا يحذف إليه الشيء حذفاً من كتاب أو ورقة أو غير ذلك، ولا يمد يديه إلا إذا كان بعيداً ولا يحوج الشيخ إلى مد يده أيضاً لأخذ منه، أو إعطاء، بل يقوم إليه قائماً ولا يزحف زحفاً، وإذا جلس بين يديه الناس لذلك فلا يقرب منه قرباً كثيراً ينسب فيه إلى سوء أدب ولا يضع رجله أو يده أو شيئاً من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، ولا يشير إليه بيده أو يقربها من وجهه أو صدره أو يمس بها شيئاً من بدنه أو ثيابه، وإذا ناوله قلماً ليكتب به فليمده قبل إعطائه إياه وإن وضع بين يديه دواة فلتكن مفتوحة الأغطية مهيأة للكتابة منها، وإن ناوله سكيناً كانت عرضاً وحد شفرتها إلى جهته، قابضاً على طرف النصاب مما يلي النصل، جاعلاً نصابها على يمين الآخذ، ولا يأنف من خدمته. وقد قيل: أربعة لا يأنف الشريف منهم وإن كان أميراً، قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته للعالم يتعلم منه والسؤال عما لا يعلمه وخدمته للضيف.

الثالث عشر:
     إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل ووراءه بالنهار، إلا إن يقتضي الحال خلاف ذلك، ويتقدم عليه في المواطن المجهولة الحال لوحل أو نحوه، ويعرف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به، وإذا صادف الشيخ بدأه بالسلام، ويقصده إن كان بعيداً ولا يناديه، ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب ويتقدم ثم يسلم عليه، ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ، هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يحسن خطاه في الرد إلى الصواب، كقوله: يظهر إن المصلحة في كذا، ولا يقول الرأي عندي كذا، وشبه ذلك.


الفصل السادس
في آداب المتعلم في درسه
وقراءته في الحلقة وما يعتمد فيها الشيخ والرفقة
وهو ثلاثة عشر نوعاً:
الأول:
     إن يبتدئ أولا بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظاً ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها. ثم يحفظ في كل فن مختصراً، يجمع فيه بين طرفيه من الفقه والحديث وعلومه والأصولين والنحو والتصريف ولا يشتغل بذلك كله عن دراسة القرآن وتعهده وملازمة وردٍ منه كل يوم أو أيام أو جمعة. وليحذر من نسيانه بعد حفظه، فقد ورد حديث يزجر عنه، ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب ابتداء، بل يعتمد في كل فن ما هو احسن تعليماً له، واكثر تحقيقاً فيه، وتحصيلاً منه، واخبرهم بالكتاب الذي قراه، وذلك بعد مراعاة الصفات المتقدمة من الدين، والصلاح والشفقة وغيرها، فإن كان شيخه لا يجد من قرابته على غيره، فلا بأس بذلك، وإلا راعى قلب شيخه، إن كأن أرجأهم نفعاً، لأنه أنفع له وأجمع لقلبه عليه، وليأخذ من الحفظ ما يمكنه ويطيقه حاله، من غير إكثار يمل ولا تقصير يخل بجودة التحصيل.

الثاني:
     إن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء، وبين الناس مطلقاً في العقليات والسممعيات، فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل يتقن أولاً كتاباً واحداً في فن واحد، أو كتباً في فنون إن احتمل ذلك على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإن كانت طريقة شيخه نقل المذاهب والاختلاف، ولم يكن له رأي واحد. قال الغزالي، فليحذر منه فإن ضرره أكثر من النفع به، وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرأه أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه، وكذلك يحذر من النقل من كتاب إلى كتاب، من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح.

     وروى البيهقي إن الشافعي رحمه الله أقبل على مؤدب فقال له: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح من تؤدبهم إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عِندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تتركه، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة". انتهىِ. أما إذا تحققت أهلية المتعلم وتأكدت معرفته، فالأولى إن لا يدع فناً من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده طول العمر على التبحر فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.

الثالث:
     إن يصحح ما يقرأه قبل حفظه تصحيحاً متقناً، إما على الشيخ وإما على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظاً محكماً ثم يكرر عليه بعد حفظه تكراراً جيداً، ثم يتعاهده بعد ذلك ولا يحفظ شيئاً قبل تصحيحه، لأنه يقع في التحريف والتصحيف، وقد تقدم إن العلم لا يؤخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد، وينبغي إن يحضر معه الدواة والقلم والسكين للتصحيح، أي في مجلس التصحيح، وأما التصحيح حال الدرس، فكان بعضهم يمنع منه لما فيه من الاشتغال عن تقرير الشيخ، وإنما يجعل عليه علامة بظفره أو نحوه ليصلحه بعد فراغه وبضبط ما يصححه لغةً وإعراباً. وإذا رد الشيخ عليه لفظُة، وظن إن رده خلاف الصواب أو علمه، كرر اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ، أو يأتي بلفظ الصواب على سبيل الاستفهام، فربما وقع ذلك سهواً أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل بل هي كذا، بل يتلطف في تنبيه الشيخ له، فإن لم ينتبه قال: فهل يجوز فيها كذا? فإن رجع الشيخ إلى الصواب فلا كلام، وإلا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر يتلطف لاحتمال إن يكون الصواب مع الشيخ، وذلك أنه إذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسألة لا يفوت تحقيقه، ولا يعسر تداركه، فإن كان كذلك كالكتابة في رقاع الاستفتاء وكون السائل غريباً، أو بعيد الدار، تعين تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بإشارة أو تصريح، فإن ترك ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطف أو غيره، وإذا وقف على مكان كتب قبالته بلغ العرض والتصحيح.

الرابع:
     إن يبكر بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه، ويعتني بمعرفة أنواعه صحيحها وحسنها وغيرها، فإن الحديث أحد جناحي العلم بالشريعة، والمبين لكثير من الجناح الآخر وهو القرآن، ولا يقنع بمجرد السماع كغالب محدثي هذا الزمان، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية، لأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه.

الخامس:
     إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الاشكالات والفوائد المهمات، أنتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة، والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة، وحل المشكلات والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل فائدة يسمعها أو يتهاون بقاعدة يضبطها، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها، ولتكن همته في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيرة ولا يقنع من إرث الأنبياء بيسيرة، ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها أو يشغله الأمل والتسويف عنها، فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها في الزمن الحاضر، حصل في الزمن الثاني غيرها ويغتنم وقت فراغه ونشاطه، وزمن عافيته وشرخ شبابه، ونباهة خاطره، وقلة شواغله، قبل عوارض البطالة، أو موانع الرياسة.

     قال عمر: تفقهوا قيل إن تسودوا. وقال الشافعي: تفقه قبل إن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل إلى الفقه، وليحذر من مضرة نظره نفسه بعين الكمال، والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين الجهل وقلة المعرفة وما يفوته أكثر مما حصله، قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وطن أنه قد استغنى فهو اجهل ما يكون، وإذا كملت أهليته وظهرت فضيلته، ومر على أكثر كتب الفن، أو المشهورة منها، بحثاً ومراجعة ومطالعة، اشتغل بالتصنيف وبالنظر في مذاهب العلماء، سالكاً طريق الإِنصاف فيما يقع له من الخلاف؛ كما تقدم في آداب العالم.

السادس:
     إن يلزم حلقة شيخه في التدريسِ والاقراء، وجميع مجالسه، إذا أمكن ؛ فإنه لا يزيده إلا خيراً وتحصيلاً وأدباً وتفضيلاً، كما قال علي رضي الله عنه في حديثه المتقدم: ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء. ويحضر موضع الدرس قبل حضور الشيخ، ولا يتأخر إلى بعد جلوسه وجلوس الجماعة، فيكلفهم المعتاد من القيام ورد السلام.

     وقد قال السلف : من الأدب مع المدرس إن ينتظره الفقهاء ولا ينتظرهم، ويحفظ النوم والنعاس والحديث والضحك، ولا يتكلم في مسألة أخذ الشيخ يتكلم في غيرها، ويجتهد على مواظبة خدمته والمسارعة إليها، فإن ذلك يكسبه شرفاً وتجليلاً، ولا يقتصر في الحلقة على سماع درسه فقط، إذا أمكنه، فإن ذلك علامة قصور الهمة وعدم الفلاح وبطء التنبه، بل يعتني بسائر الدروس المشروحة ضبطاً وتعليقاً ونقلاً، إن احتمل ذهنه ذلك، ويشارك أصحابها حتى كأن كل درس منها له.

     ولعمري إن الأمر لكذلك للحريص، فإن عجز عن ضبط جميعها، اعتنى بالأهم فالأهم منها، وينبغي إن يتذاكر مواظبو مجلس الشيخ ما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، وأن يعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم، فإن في المذاكرة نفعاً عظيماً، وينبغي المذاكرة في ذلك عند القيام من مجلسه قبل تفرق أذهانهم، وتشتت، خواطرهم، وشذوذ بعض ما سمعوه عن إفهامهم، ثم يتذاكرونه في بعض الأوقات، وافضل المذاكرة في الليل. وكان جماعة من السلف يمدون المذاكرة من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح، فإن لم يجد الطالب من يذاكره، ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه ليعلق ذلك على خاطره، فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء سواء، وقل إن يفلح من اقتصر على الفكر والنقل بحضرة الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق